أهم الأخبارمقالات

هل تريد أميركا حرباً مع إيران أم تكتفي بتحجيم وكلائها تحضيراً لتسوية إقليميّة؟

 

رياض قهوجي

شنت القوات الأميركية في الأيام الأخيرة سلسلة غارات جوية عنيفة على مواقع ميليشيات تابعة لإيران في سوريا والعراق واليمن، في خطوة تهدف إلى تقليص قدرات هذه المجموعات المسلحة التي باتت تهدد هيبة الردع الأميركية، بالإضافة إلى مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. وبحسب تصريحات مسؤولين في الإدارة الأميركية، فإن هذه الهجمات ستتكرر في الأيام والأسابيع المقبلة حتى تحقق أهدافها. وجاءت هذه الغارات في وقت ارتفعت فيه أصوات المنتقدين لإدارة الرئيس جو بايدن من داخل واشنطن وخارجها لتجاهل خطر طهران وميليشياتها ولعدم الرد المباشر على الأراضي الإيرانية والاكتفاء باستهداف وكلائها. هذا في وقت عمدت إدارة بايدن إلى تطمين طهران مسبقاً بأن غاراتها المرتقبة لن تستهدف أراضيها.

ويشير عدد من المسؤولين والمراقبين في واشنطن إلى أن تآكل هيبة الردع الأميركية لم يبدأ في عهد بايدن، بل يعود إلى حقبة إدارة الرئيس باراك أوباما. وبحسب الجنرال جوزيف فوتيل، القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط، فإن قرار أوباما التوجه نحو آسيا، وتحديداً منطقة المحيطين الهادئ والهندي للتعامل مع الخطر الصيني، أوجد فراغاً في منطقة الخليج ومحيطها، ما مكّن الميليشيات الإيرانية من الانتشار والتسلح بهذا الشكل. وأضاف فوتيل أن أوباما ركز جهوده كافة على احتواء البرنامج النووي الإيراني وتجاهل خطر الميليشيات الموالية لإيران، والتي باتت تشكل تهديداً حقيقياً لأميركا ومصالحها، ما يستدعي تحركاًَفورياً وحازماً.

تجدر الإشارة إلى أن قوات الحشد الشعبي حصلت على كميات كبيرة من الأسلحة الأميركية خلال عهد أوباما ضمن الجهد المشترك لمحاربة “داعش” في العراق. أما في سوريا فقد أشرف قاسم سليماني شخصياً على إنشاء ميليشيات وتسليجها تحت أعين واشنطن بحجة محاربة “القاعدة” و”داعش”. وكانت الطائرات الحربية الأميركية أحياناً توفر غطاءً جوياً لعمليات الميليشيات التابعة لإيران ضد “داعش” في سوريا والعراق.

ورغم أن إدارة دونالد ترامب ألغت الاتفاق النووي واغتالت قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإسلامي قاسم سليماني مع مسؤول الحشد الشعبي في العراق، إلا أنها لم تشن أي هجمات قوية ضد هذه الميليشيات أو إيران، واكتفت بالتهديد والوعيد. لكن طبيعة ترامب المتقلبة وصعوبة التنبؤ بتحركاته جعلتا تهديداته أكثر مصداقية لطهران التي أوقفت تحركاتها الاستفزازية في مياه الخليج وتراجعت نشاطات وكلائها في المنطقة خلال السنة الأخيرة من ولايته.

أما في اليمن، فإن الإدارة الأميركية وحلفاءها في أوروبا مارسوا ضغوطاً قوية على التحالف العربي بقيادة السعودية عام 2018 لمنع القوات التابعة للحكومة اليمنية الشرعية من احتلال الحديدة، بعدما سيطرت على جزء كبير من الخط الساحلي ووصلت إلى مدخل المدينة المطلة على البحر الأحمر. وها هي الميليشيات الحوثية اليوم تهاجم السفن التجارية من الحديدة والمناطق اليمينة الأخرى المطلة على البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وبعد سنوات من تجنب أي عمل عسكري ضد الحوثيين والتقليل من عمق علاقتهم الاسترتيجية مع إيران، تقوم أميركا، بمساندة من بريطانيا، بغارات شبه يومية لتدمير البنية التحتية العسكرية للميليشيات الحوثية، بخاصة ما تملكه من صواريخ بالستية وجوالة مضادة للسفن ومسيرات هجومية. لكن معظم المراقبين يقللون من مدى فعالية الغارات الجوية ويشددون على أن إزالة الخطر الحوثي على الملاحة لا يمكن حله عسكرياً سوى عبر عملية برية لطردهم من المناطق الساحلية، وهي مهمة يمكن أن توكل للقوى اليمنية التابعة للحكومة الشرعية.

أما “حزب الله”، فقد بات لاعباً إقليمياً وعضواً أساسياً في محور الممانعة والجهة الآمرة الناهية على الساحة اللبنانية. وأظهرت التطورات في فترة ما بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) أن تجربة إيران في بناء جبهة إضافية ضد إسرائيل انطلاقاً من جنوب سوريا قد فشلت نتيجة الضربات الإسرائيلية خلال السنوات الماضية وانكشاف الساحة السورية استخبارياً لمصلحة الدولة العبرية. لكن حجم القوة العسكرية التي بناها الحزب داخل لبنان تشكل تحدياً حقيقياً لإسرائيل، وأزمة لواشنطن من ناحية دعم عملية عسكرية ضده من دون المخاطرة بتهديد وجود لبنان. فـ”حزب الله” تمكن من ربط مصير لبنان بمصيره، إذ إن أي عملية عسكرية كبيرة ضده ستؤدي إلى دمار هائل في لبنان وربما إلى اندلاع حرب أهلية فيه عقبها. وهذا الواقع هو ما يدفع باتجاه الحل السياسي الذي يناسب “حزب الله” لأنه سيتمكن من تحقيق مكاسب سياسية إضافية على الساحة اللبنانية ومكاسب لحليفته الأساسية: طهران.

ولقد تحدث الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان في مقالة أخيراً عن تبلور استراتيجية أميركية جديدة في الشرق الأوسط أطلق عليها اسم “عقيدة بايدن”. وتقوم هذه الاستراتيجية على شن ضربات عنيفة ومتكررة لإضعاف الميليشيات الإيرانية واحتوائها في سوريا والعراق واليمن، وفرض معادلة حل الدولتين على إسرائيل بعد إخراج “حماس” من غزة، ما سيؤمن الطريق لإعادة إحياء عمليات التطبيع بين إسرائيل ودول المنطقة، بدءاً من المملكة العربية السعودية. وتحاول واشنطن الاستعانة بحلفائها الأوروبيين في سبيل تحقيق ذلك. كما أنها تتواصل مع بكين للضغط على طهران للوصول إلى حلول سياسية للمواضيع العالقة، ومنها اتفاقية جديدة لبرنامجها النووي وأمن مياه الخليج والبحر الأحمر.

ويشكل أمن مضيق باب المندب مشكلة للأمن الدولي، وتحديداً للدول الآسيوية، الأمر الذي يقلق بكين التي بدأت ترفع الصوت عالياً لتداعيات هذه الأزمة على اقتصادها. كما أن الهند أرسلت ما لا يقل عن عشر سفن حربية للمساهمة في حماية سفنها التجارية في المنطقة من خطر الميليشيات الحوثية. وبالتالي فإن مشكلة التهديد الذي تمثله الميليشيات الحوثية على الملاحة الدولية باتت مشكلة دولية، وغير مرتبطة بحرب غزة. فهذه الميليشيات قد تتذرع بأي شيء مستقبلاً لتهديد الملاحة بهدف ابتزاز المجتمع الدولي، إما لأهداف خاصة أو متعلقة بمصالح إيران ومحور الممانعة. وبالتالي، فإن مسألة سيطرة الحوثيين على المناطق الساحلية المطلة على بحر الأحمر يعاد النظر فيها من قبل القوى الدولية، وستتجاوز تداعياتها حرب غزة.

وبناءً على ما تقدم، بات واضحاً أن واشنطن تتفادى حرباً مع إيران منذ زمن ولا تزال تعمل على ذلك. كما أن طهران لا تريد حرباً مباشرة مع أميركا، بل تسعى لاستنزافها بهدف ابتزازها وترهيب حلفائها. وتسعى أميركا اليوم لاحتواء حجم خطر وكلاء إيران الذين يبدو أنهم باتوا أقوى وأكثر جرأة مما هو مسموح به من وجهة نظر القيادة الأميركية. لكنها بحاجة لاستمرار هذا الخطر الذي يسهل عملية التطبيع مع إسرائيل ويبرر برامج الدفاع الكبيرة لحلفائها في المنطقة. كما أن طهران تريد أن تستفيد من تنامي نفوذ وكلائها من خلال تعزيز سيطرتهم على حكومات الدول الموجودين فيها والتي تمكنهم من تحقيق مكاسب من عقود نفطية وتجارية أخرى، مثل موضوع ترسيم الحدود البحرية في جنوب لبنان والذي يفتح الطريق للاستثمار في حقول الغاز المتوقعة قبالة السواحل اللبنانية. كما أن دخول الصين ساحة الشرق الأوسط يعزز فرص إيران الاقتصادية عبر شراكات مع بعض الدول الخليجية، وبكين تتجنب النزاعات وتفضل العمل في بيئة مستقرة.

وعليه، فالمنطقة مقبلة على تصعيد عسكري ستسعى الأطراف المعنية إلى ضبط إيقاعه قبل الدخول في حلول سياسية لمرحلة جديدة بدأت تظهر معالمها، هذا طبعاً ما لم تحصل مفاجآت تغير الحسابات والحلول.

* نقلا عن “النهار”

 

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى