أهم الأخبارمقالات

مناطق حرة في الهلال الخصيب

 

وليد فارس

مع صدور مواقف عن قيادات روحية ومدنية في محافظة السويداء بالجنوب السوري أخيراً تطالب بخروج قوات المحور الإيراني من المدينة ومحيطها، بما فيها قوات النظام و”حزب الله” وسائر الميليشيات الإيرانية، ومقاومة الأهالي لـ”داعش” وميليشيات المحور على حد سواء، تتداول أوساط معنية في الولايات المتحدة وأوروبا ودول أخرى فكرة المساعدة في إقامة “منطقة حرة” في السويداء، على غرار منطقة الإدارة الذاتية شمال شرقي البلاد، التي يقودها الأكراد ويشارك فيها العرب السنة والمسيحيون بحماية الولايات المتحدة والتحالف الدولي ضد الإرهاب.

وربما بعد التوصل إلى حل نهائي في سوريا، سيتم التحول إلى حل شبيه بإقليم كردستان العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، ولكن بمختلف الحالات أياً تكن الحلول فأي خيار لهذه المنطقة سيكون أساسياً لأهلها، لا لأميركا ولا للعرب ولا لإسرائيل، ولا حتى للنظام في دمشق. فلنحذف منذ بداية هذه المقالة قلق البعض، ولا سيما هذيان القوى التي رفضها شعب السويداء.

هذا المشروع، وليس قراراً بعد، يحسمه درزها العرب وسائر طوائفها على أرضهم، وليس سياسيين وإقطاعيين عبر الحدود. إذاً ما أسباب طرح المشروع ومقدراته وأهدافه الحقيقية ونتائجه وموقف الولايات المتحدة والتحالف منه؟

“مناطق حرة” عبر الهلال

لنوضح قليلاً لقرائنا، الذين ربما يتأثرون بضجيج البروباغندا الإيرانية، وترددات الخطاب الإخواني، وبعض رواسب المنهج القومجي، أن فكرة ما يمكن تحديده بـ”مناطق حرة” في منطقة الشرق العربي والأوسع، ليست إطلاقاً آلية لبدء عملية انفصالية لشعب ما عن دولة ما، كما أن التحالفات الإقليمية ليست آليات لدمج دول ببعضها. فالتقسيم والانفصال هي ملفات قانونية معقدة تبدأ من داخل الدول، عبر حوارات واستفتاءات وثانياً عبر مساعدة دولية تحت القانون الدولي، وقد تنتهي أم لا في تقرير المصير وإقامة دولة جديدة، هذا شيء وتنظيم منطقة حرة هو شيء آخر.

يأتي تنظيم منطقة حرة لأسباب أمنية تستهدف أولاً حماية مدنيين تحت التهديد الإرهابي، ثم ثانياً مساعدة الأهالي في إقامة سلطات محلية منبثقة عنهم لتمكين إدارة هذه المناطق والتواصل مع المجتمع الدولي حتى الحلول النهائية لأزمتهم، لأن أميركا والغرب وحتى الأمم المتحدة في حاجة إلى شرعية شعبية محلية لكي يمدوا يد المساعدة لحلفاء محليين، في إطار مواجهة الإرهاب.

السويداء… شرار الحراك يقلق النظام السوري
إذاً وبعكس ما يتخيله بعضهم، ويشرئب بسببه المعسكر الذي يرفض هذه المناطق الآمنة، لا سيما القوى المعادية للغرب والداعمة لسيطرة المحور الإيراني أو الميليشيات المتطرفة، فتلك المناطق التي يدعو إليها من يريد الحفاظ على المجتمعات المستهدفة والمستضعفة، توصف بأنها “صناعة أميركية بحتة” وليست مطلباً محلياً ملحاً، ولكن هذه المناطق عملياً هي التي احتاجت ولا تزال إلى مساحة تحميها من الميليشيات الإيرانية والإسلاموية، ولم توفر دولها الحماية المطلوبة، بل شاركت في قمعها، أو فشلت في منع الإرهاب من اجتياحها، فما تلك المناطق؟

“الجيوب المستضعفة”

لكل منطقة استهدفت، وسعت بعد ذلك أن تتحول إلى بقعة حرة، تاريخها ومعاناتها ووضعها، وأيضاً أجنداتها، ولا يمكن وضع كل تلك الجيوب في سلة واحدة، لأنها من جذور مختلفة ومعاناة متنوعة، ولقياداتها حسابات سياسية متقلبة.

لعل أعتق منطقة حرة في الهلال الخصيب هي كردستان العراق، وبدأت مقاومتها ضد البعثيين في العراق منذ عقود، وصعد حكم صدام حسين ضد الأكراد وصولاً إلى استعمال الغازات السامة في حلبجا، وهي جريمة حرب.

ومع إسقاط نظام صدام طالب الأكراد بمنطقة حكم ذاتية، وحصلوا على أفضل خيار وهو إقليم شبه فيدرالي ضمن العراق. وساعدهم ذلك في التصدي لاجتياح “داعش” في 2014، بينما انهار الجيش العراقي.

بات إقليم كردستان العراق أنجح منطقة حرة في المنطقة، منتصرة على “داعش”، عصية على الميليشيات الإيرانية، لها تواصل جيد مع العالمين العربي والخارجي، ممثلة في بغداد، وضعها التنموي على تقدم، وسماؤها تحت حماية التحالف، ولكن هناك منطقتين مستضعفتين داخل الدولة نفسها.

الأنبار

منطقة الأنبار أيضاً سعت ولا تزال إلى التحول لمنطقة حرة ضمن العراق بسبب معاناتها تحت حكم الميليشيات الإيرانية وسيطرة “داعش” وبطشها.

وأملت المنطقة في أن تساعد واشنطن بمساعدة العشائر العربية السنية في إقامة إدارة محلية، بمساعدة الوجود العسكري الأميركي في الأنبار، لا سيما في قاعدة عين الأسد.

إلا أن لوبي الاتفاق النووي الإيراني في واشنطن منع ذلك، وتتمدد ميليشيات الحشد والباسدران في صحاريها حتى الحدود السورية.

والسيناريو الوحيد لعودة مشروع “الأنبار الحرة” حتى بلوغ العراق السيادة القصوى خارج نفوذ الميليشيات الخمينية، هو أن تقرر فعالياتها ماذا تريد، أن تدرس علاقتها مع حكومتها المركزية، وبالطبع أن تقرر واشنطن خطواتها، أي عملياً أن تدرس أهمية الأنبار في إطار إقامة الجدار الحدودي بين العراق وسوريا لمنع التوسع الإيراني باتجاه المتوسط.

نينوى وسنجار

في صيف 2014 وبموازاة اجتياحه للمناطق العربية السنية والشيعية، غزت جحافل “داعش” منطقتين صغيرتين في شمال العراق، هما سهل نينوى حيث الأراضي التاريخية للآشوريين والكلدان وبعض السريان، ثم منطقة جبل سنجار، حيث الأقلية الأيزيدية (أو اليزيدية) القديمة.

ونفذت “داعش” أبشع المجازر في قرى الأقليتين، إلى حد بدأت أصوات المسيحيين والأيزيديين العراقيين في داخل العراق وفي العالم تطالب بمنطقة محمية دولياً في المقاطعتين، أي عملياً “منطقة نينوى وسنجار الحرة”.

ومع تحريرها من “داعش”، اعتقد أهلها بأن الحماية الدولية آتية، إلا أن وزر الاتفاق النووي ألزم إدارتي الرئيسين باراك أوباما وجو بايدن بألا يصطدما بإيران وأن يجدا “حلاً سياسياً” مع بغداد.

لكن النتيجة العملية كانت دخول ميليشيات “الحشد” إلى معظم السهل والسيطرة عبر قوات محلية على سنجار، ولكن هنا أيضاً إذا قررت واشنطن أن تقطع الجسر الإيراني إلى سوريا، فسيعود طرح منطقة حرة للأقليات في شمال العراق.

منطقة سوريا الديمقراطية

ثاني أكثر “منطقة حرة” نجاحاً في الهلال الخصيب هي الأراضي التي أعلنتها “قوات سوريا الديمقراطية” بأغلبيتها الكردية، ومشاركة العرب السنة والمسيحيين السريان فيها، كمنطقة إدارة محلية منفصلة عن سلطة نظام بشار الأسد.

وانطلقت منطقة “قسد” بعد انطلاقة الثورة السورية في مارس 2011، فبينما قاد الليبراليون والثوار السوريون، ومن بعدهم الإسلاميون، الانتفاضة في المدن الكبرى وتوسعوا في الأرياف، ركزت قوات الـYPG، ومعها عشائر عربية ومجموعات صغيرة من السريان، على السيطرة على أوسع مساحة ممكنة من الأرض في الشمال والشرق.

وتمكنت “قسد” من “تحرير” أكثر من ربع الأراضي السورية، بينما نجح الإسلاميون في اقتطاع مساحة في شمال شرقي سوريا بدعم تركي، وفي محيط دمشق لمرحلة. أما الثورة السورية الأساسية، المعروفة بـ”الثورة الوطنية” فلم تسيطر على بقعة كبيرة على رغم نجاحها السياسي والدبلوماسي.

 

بالعودة لـ”قسد” فقد حصلت على دعم البنتاغون خلال الحملة على “داعش”، ولا تزال، وعلى غطاء طيران التحالف حتى الساعة. وعلى رغم خسارتها لشريط حدودي لصالح تركيا والميليشيات الإخوانية، فهي عملياً أوسع منطقة “أمن ذاتي” في الهلال الخصيب.

واتكل الأميركيون على “قسد” جيوسياسياً في حربهم على “داعش”، وتعتمد على منطقتهم في شمال سوريا لتتصدى للتمدد الإيراني في المشرق.

وأضاف “ارتبط هذا الدور الاستراتيجي في حاجة واشنطن (إلى منطقة قصد الحرة) في الشمال الشرقي السوري، على رغم كثرة أعدائها كالنظام السوري وتركيا والميليشيات الإيرانية. إلا أن هذه المنطقة التي تسعى إلى الوصول إلى نظام فيدرالي مع دمشق، لن تتردد أمام الاستقلال إذا سمحت الظروف، ولكن ذلك لم يمنعها من الحوار السري مع حكومة بشار الأسد والإيرانيين لتخفيف الضغط عليها، بحال انسحاب الأميركيين كما حدث بأفغانستان.

“منطقة حرة عربية”؟

يجري الحديث عن مشروع منطقة حرة للعرب السنة تشمل أجزاء واسعة من بادية الشام، من محيط دير الزور إلى البوكمال على الحدود مع العراق، جنوباً حتى التنف، فحدود “السويداء” لكي تتحول إلى أوسع منطقة عربية سنية في سوريا خارج سلطة الحكومة البعثية، إذ بعد الصدامات بين العشائر العربية وقوات “قسد” في خلافات سلطة محلية بات أوضح أن تمكين العرب السنة في شرق سوريا وجنوبها من إقامة منطقتهم الآمنة والواسعة والمفتوحة على أنبار العراق والأردن وعبر هذا الأخير على عمق الخليج. أما الأهم بالنسبة إلى واشنطن فهو دخول منطقتي البادية و”قسد” سوية، وبتعادل في الجدار الأميركي الرادع لزحف الميليشيات الخمينية غرباً.

“السويداء الحرة”

منذ اندلاع الثورة السورية منذ عقد ومحافظة السويداء حيث تعيش معظم الأقلية الدرزية في سوريا بحالة انتفاضة سلمية ضد سلطة البعث من دون هوادة، بسبب مطالب اجتماعية واقتصادية ورفضاً للقمع السياسي والأمني.

وتعرضت المنطقة لغزو دموي من الجحافل الدواعشية قبل طردهم، وتتعرض هذه المنطقة الحدودية لخروقات مستمرة من الميليشيات الإيرانية و”حزب الله”، إضافة إلى قوات الأسد، وانفجرت أخيراً تظاهرات هادرة لأهالي المدينة مطالبة بإقامة إدارة محلية شبيهة بـ”قسد” في الشمال.

واستوت حالياً فكرة منطقة حرة في محافظة السويداء العربية الدرزية تحدها المنطقة العربية السنية إلى شرقها ومناطق سيطرة النظام إلى شمالها وغربها، بانتظار تحديد دور المعارضة الوطنية في الجنوب.

“سوريا الحرة”

يمكن فهم تزاوج آمن وحرية “المناطق الحرة الثلاث” المتلاصقة في سوريا، من منبج إلى البوكمال فالتنف، وصولاً إلى غرب السويداء، محاذية للأنبار والأردن بحماية نسبية من التحالف، وتواصل اقتصادي ولوجيستي مع العمق العربي واتصال بالأسواق الدولية من ناحية، وتمكين الولايات المتحدة من حماية هذه المناطق الحرة من توغل “داعش” والتنظيمات التكفيرية وإبعاد الميليشيات الإيرانية عن الجسر العسكري باتجاه دمشق والضاحية الجنوبية لبيروت.

وتطرح البروباغندا المعادية للمناطق الحرة السؤال الاتهامي ضد هذا المشروع صارخة أن هذا يعني تقسيماً للدول، ويأتي الجواب حاسماً أنه لا تقسيم للدول بل إقامة مساحات حرة آمنة وقابلة للحياة اقتصادياً. والأهم من ذلك أن هذه “السوريا الحرة الثلاثية”، وإلى حد ما اتحادية، ستسمح ببدء عملية إعادة المهجرين واللاجئين إلى الأراضي السورية، بالتالي تسقط مقولات الغاضبين من قومجيين وخمينيين وإسلامويين، من قيام بقع حرة محمية ومستعدة للمساعدة في إنهاء الحروب وعودة الاستقرار.

منطقة حرة في لبنان

وكنا كتبنا عن المنطقة الحرة في لبنان التي يمكن أن تمتد من صيدا وجزين إلى حدود لبنان مع سوريا شمالاً، والفارق مع مناطق العراق وسوريا الحرة، أن بيروت الإدارية ستكون داخل خطوط هكذا منطقة، التي ستضم مطارات أخرى ومرافئ والوزارات وقيادة الجيش.

وستتمتع لبنان كذلك بساحل على المتوسط بالتالي وصول إلى حقول الغاز، وكل ذلك يعكس سائر المناطق الحرة في الهلال الخصيب، فليخرج لبنان الحر إلى النور وعلى قياداته أن تتحمل مسؤولياتها، وسنرى ذلك في المستقبل.

والسؤال الأكبر يبقى، هل ستدعم الولايات المتحدة هذا المشروع أم لا؟ والجواب أن واشنطن لن تفرض أي مشروع ما لم تطالب مجتمعات هذه المناطق النجدة منها ومن التحالف.

وبعكس ما يتخيله كثيرون في الشر الأوسط ليست هناك ملفات جاهزة ومؤامرات تحاك، بل سياسات يتم إقرارها بحسب الظروف، فإما أن تكون هذه المجتمعات جاهزة للوثوب، أو أن تغرق في مستنقعات التطرف والإرهاب والظلامية.

نقلا عن اندبندنت عربية

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى