أهم الأخبارمقالات

“الجمهورية الإمبريالية الإيرانية” والسياسة الأميركية (5)

وليد فارس

في هذه المقالة السادسة حول كتابي الجديد “الجمهورية الإمبريالية الإيرانية والسياسة الأميركية” ألخص التفسير الذي يقدمه الكتاب عن طبيعة العرقلة التي تمنع #جو_بايدن من التراجع عن #الاتفاق_النووي. فعلى رغم عدم تقيد #إيران بالشروط الغربية للعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة JCPOA تماماً، وتبدل الأوضاع في المنطقة بشكل خطر، وقلق الشركاء الإقليميين المتزايد من تهديدات #طهران الأمنية للمنطقة، وانفجار #ثورة_شعبية داخل إيران، لا نزال نرى التزاماً لإدارة #باراك_أوباما “بالعودة إلى الاتفاق”. لماذا؟ هو سؤال طرحه أعضاء كثر في #الكونغرس الأميركي ومسؤولو الدول الصديقة لأميركا في المنطقة. فما سر هذا التعلق “الواشنطوني” بهذه الصفقة؟

حاولت الإجابة في الكتاب من عدة زوايا. وقد لخصت قدر المستطاع الأسباب المرئية في المقالات السابقة، وعلى رأسها تغير في مدرسة السياسة الخارجية منذ انطلاقة إدارة أوباما في 2009، وربما بعض السنوات قبل ذلك. أما في هذه الحلقة فسألخص الأسباب غير المرئية التي تمنع إدارة بايدن من الانسحاب من الصفقة، بحسب ما تبين لي منذ بضع سنوات.

“أخطبوط” الصفقة

عندما باشر فريق أوباما بالتفاوض مع طهران، انطلقت المحادثات على أساس استراتيجي دبلوماسي أمني، بما معناه أن إدارته أرادت أن تجد حلاً لمعضلة قرب امتلاك إيران قنبلة نووية، بالتالي تم طرح صفقة متبادلة: أميركا والغرب “يدفعان” المبالغ، والقيادة الإيرانية تلتزم إيقاف البرنامج النووي. وفي عام 2014 حولت الإدارة ملياراً ونصف المليار إلى طهران كعربون على “الصفقة” قبل عام من التوقيع النهائي. فماذا فعل النظام بهذا المبلغ؟ التخمينات تشير إلى أن طهران استعملت جزءاً من السيولة لإقامة شبكة لوبي واسع في الولايات المتحدة، نجحت في تعميق النفوذ الإيراني في الأوساط السياسية والإعلامية.

هكذا تحول “العربون” إلى ذراع داخل واشنطن لمصلحة طهران، بدلاً من أن يتحول إلى “ذراع” أميركية تؤثر في إيران. هكذا، انتصرت إيران ببناء ذراع لها، أي لوبي داخل خصمها، فخلقت مصالح مباشرة تؤثر في القرار السياسي، وتروضه لصالحها. فبات أصعب على الإدارة أن تنسحب من الصفقة بسبب المصالح التي أوجدتها من حولها. وفي العام التالي وقعت إدارة أوباما – بايدن على “الاتفاق الكبير”، وبدأت بتحويل نحو 150 مليار دولار إلى النظام، فقفز النفوذ المالي لإيران في أميركا مئة مرة، من تأثير 1.5 مليار إلى 150. وهذا التطور لم يدركه كثيرون داخل أميركا نفسها، ولا خارجها، أي إن الاتفاق النووي والمستفيدين منه قد غيروا سياسة واشنطن بسبب أخطبوط المصالح الذي صنعوه في أهم مفاصل المؤسسة المركزية من الإعلام إلى البيروقراطية والأصوات المؤثرة (Influencers). ومع اكتشافي التدريجي للمعادلة الجديدة، أي المعادلة الضخمة التي ضختها سيولة الصفقة في عروق شبكة التأثير الضخمة في الولايات المتحدة، أدركت أن القرار المؤسساتي بالتزام الاتفاق سيصعب التأثير فيه أو تغييره تحت إدارة أوباما، ولا بد من إدارة أخرى معارضة لهذه السياسة.

الأخطبوط الأكبر

ولكن توقيع الاتفاق – الصفقة أنتج ما وصفته بـ”الأخطبوط الأكبر”، وهو كناية عن تجمع الشركات والمصالح المالية والاقتصادية الواسعة التي ربطها اللوبي، وإلى حد ما الإدارة، بإيران. فبينما وصلت أحجام السيولة التي نتجت من توقيع الاتفاق إلى نحو 152 مليار دولار، فإن أحجام الاستثمارات التي تم توقيعها مع هذه المصالح، أو التي وعدت بها، هي خيالية، وتتمدد ليس فقط في إيران، ولكن أيضاً في مستعمراتها العربية الأربع، العراق وسوريا ولبنان واليمن، وهي تتشابك مع المصالح الأوروبية الكبيرة التي انطلقت أيضاً من خطة العمل المشتركة، وأضافت ثقلها إلى ثقل الشبكة الأميركية، فتحولت إلى مشروع مالي قد يتخطى نصف تريليون دولار في أقل من عقد.

وحجم من الثروات كهذا لو استعمل اللوبي جزءاً بسيطاً منه، فالسيولة لا تزال قريبة إلى 150 مليار الأولى، إلا أن “وعود الصفقات” عملياً بقوة الصفقات المنجزة، أي تؤثر في قرار الأرباح الممكنة Potential Business. من هنا، ما تم بناؤه حول صفقة 2015 هو شبكة عالمية هائلة تحميها الدول الكبرى، الغربية والشرقية، تحت غطاء الاتفاق النووي. ومن هنا، ما بنته إدارة أوباما وظنت أنها ستسيطر عليه، تحول إلى منظومة تفيد حلفاء الإدارة، وتسيطر على سياستها الخارجية، ويصعب الإفلات منها. لذا، فالجواب الأبسط للتساؤل حول عدم قدرة الخروج عن الصفقة هو حجم الالتزامات والأرباح التي تجنيها أو تأمل في حصدها هذه المصالح الكبرى.

وهنا يتضح أن سر التموقع الإيراني كمن في هندسة أركان للوبي الذين ربطوا مصالح كتل كبرى بالدفاع عن الصفقة، بالتالي يصعب على أية إدارة أن تتخلى عنها بسبب الضغوط المالية.

تمرد ترمب على الأخطبوطين

في عام 2017 توجه الرئيس الجديد دونالد ترمب مع كبار وزرائه ومساعديه إلى الرياض ليدعو زعماء التحالف العربي إلى تعبئة صفوفهم ضد الانفلاش الإيراني، والتزم أمام الحكومة الإسرائيلية إسقاط الاتفاق النووي. فاستنفر اللوبي الإيراني قواه، ودفع بالإعلام والبيروقراطية المؤيدة لأوباما لشن أم الحملات ضد ترمب. وتموقع اللوبي الإيراني في صفوف المعارضة للرئيس، وبات في الصفوف الأمامية من القصف الإعلامي. إلا أن إدارة ترمب استمرت بخطها في السياسة الخارجية، وانسحبت من الاتفاق في 2018، فتفجرت معارضة شرسة أعنف للبيت الأبيض، ودخل “لوبي الاتفاق” الأكبر حجماً، والأقدر مالياً، على خط المعارضة الداخلية لترمب، فشاهدنا “شركات الصفقة” تتبرع لخصومه السياسيين، وتمول مجموعات انتفاضة صيف 2020، والأهم تقف بقوة ضد حملته خلال الانتخابات الرئاسية، وهو أمر لم يحدث بهذا الحجم من قبل في السياسات الأميركية الداخلية، أن يلعب لوبي خارجي دوراً تدخلياً بهذا الثقل، ليس له مثيل في تاريخ أميركا الحديث. لذا، فالخلاصة التي وصلت إليها في الكتاب تفيد بأن حجم نفوذ الصفقة في واشنطن وصل إلى مستوى يفرض الاستمرار بالاتفاق، إذا كانت الإدارة مؤيدة، ويساعد في إنهاء رئاسة إذا عمدت على تهديد الاتفاق.

بايدن الرهينة

في الكتاب الذي غطى التطورات حتى ديسمبر (كانون الأول) 2022، طرحت سؤالاً حول نية وقدرة إدارة بايدن على أن تخرج من المفاوضات، وأن تنهي الاتفاق مع إيران. وحتى أغسطس (آب) الماضي وأنا أكتب الصفحات الأخيرة قبل الخلاصة، رأيت أن الأخطبوط الأول، أي نفوذ اللوبي في الإعلام والبيروقراطية، سيتمكن من الحسم وإبقاء إدارة بايدن في دائرة الاتفاق، لأن البيت الأبيض كان في حاجة ماسة إلى الصحافة لكسب معركة الانتخابات النصفية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي لصالح فريقه. وكذلك كانت بيروقراطيته قد أقنعته باستمرار التواصل مع طهران لقرب احتمال التوقيع، بخاصة إذا حافظ على أكثرية في الكونغرس، ولكن الرياح ذهبت بعكس ما اشتهت الإدارة، فنجحت المعارضة الجمهورية في الكونغرس، وانقسمت واشنطن. ومن ناحية ثانية، استمرت طهران في التشدد، فتلاشت آمال البيت الأبيض بتوقيع سريع في 2022.

إلا أن الضربة القاصمة لتعويم الشراكة الأميركية – الإيرانية أتت مع موجة مهسا أميني الثورية. وانطلقت الانتفاضة الشعبية، ولم تهدأ، فتنبأت في أواخر نوفمبر في آخر الصفحات بأن الثورة ستجتاز الزمن إلى 2023، وستطول، وأنها ستجعل من توقيع بايدن على أية وثيقة بمثابة كارثة سياسية لإدارته وحزبه، إن فعل. وهذا ما حدث بالفعل منذ بداية العام. الثورة تمددت داخل إيران، والتظاهرات تتسع من لوس أنجليس إلى واشنطن، ومن باريس إلى برلين، والبيت الأبيض يرى نفسه مضطراً إلى أن يؤيد مطالب النساء “بالموازاة”، ومنتقداً الإعدامات داخل إيران، إلا أن “الأخطبوط الأكبر” دخل على الخط، ورمى بثقله في الميزان على رأس الإدارة، “فمصالح النصف تريليون” لا تأبه بحقوق امرأة وإعدام المراهقين وقمع الأقليات وتمويل الميليشيات في المنطقة. الكتلة العالمية للاتفاق هائلة، ولها أذرع عميقة ومتشابكة مع تأثيرات سياسية. فهي لن تسمح لا بإسقاط الاتفاق، ولا بسقوط النظام. فإنها أم المعارك بين ثورة الشعب الإيراني وأخطبوط المصالح في الغرب. وإدارة بايدن بين المطرقة والسندان، رهينة ثورة لا تهدأ ولوبي معاند.

هل ستفجر المعادلة – الكابوس؟ سنرى في حلقة الأسبوع المقبل.

اندبندنت عربية

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى