مقالات

اتفاق نووى فى الأفق وتحديات التطبيق

حسن أبو طالب
 
من المعادلات المعروفة التى تحيط بأى مفاوضات بين خصوم، أن يطرح كل طرف أقصى ما لديه، باعتباره ما يجب أن تنتهى إليه المفاوضات، ثم تأتى النتائج لتظهر أن كلا الطرفين المتفاوضين قد تنازلا عن الحدود القصوى، ووصلا إلى نقطة وسط تحقق لكل منهما بعضاً من أهدافهما.
 
نرى الأمر واضحاً فى المفاوضات الخاصة بالبرنامج النووى الإيرانى التى بدأت آخر جلساتها يوم الاثنين الماضى فى فيينا. الجانب الإيرانى ممثلاً فى وزير الخارجية أمير عبداللهيان، أكد أن جولة فيينا سوف تركز على رفع العقوبات الأمريكية وضمانات بعدم العودة إليها مجدداً والتحقق من بيع النفط الإيرانى دون أى عوائق، ومؤكداً أن هناك وثيقة مطروحة للاتفاق عليها تجاوزت الوثائق السابقة، أى التى تم التوصل إليها فى عهد الرئيس السابق حسن روحانى، وقبل وصول الرئيس إبراهيم رئيسى إلى الرئاسة.
 
تصريحات وزير الخارجية الإيرانى لم تذكر سوى شق واحد فقط، وهو ما يهم بلاده، وتجاهل الشق الثانى وهو الالتزامات التى سيكون على إيران الانصياع لها. أنريكى مورا، المنسق الأوروبى للمفاوضات ذكر الأمر بطريقة أخرى، مشيراًَ إلى أن جولة فيينا تناقش مسارين متوازيين؛ التزامات إيران من جانب ورفع العقوبات من جانب آخر، وهما مساران يدعم كل منهما الآخر. وأعتقد أن هذا هو الواقع الذى يؤكد أن ثمة جدية فى المفاوضات رغم الصعوبات، وأنها تعالج مطالب الأطراف جميعها فى آن واحد، وأنها تقترب من الوصول إلى نقطة وسط يقبلها الجميع.
 
ومع ذلك فعلينا أن نضيف أن جولة فيينا هذه ليست بالضرورة هى الجولة الأخيرة التى سوف تصل إلى الصيغة النهائية. والأقرب أنها سوف تصل إلى صيغة تحل الكثير من المشكلات، ولكنها تحتاج العودة مرة أخرى إلى أصحاب القرار السياسى فى الطرفين الرئيسيين؛ وهما واشنطن وطهران.
 
وغالباً ستكون هناك بعض النقاط التفصيلية التى قد تتطلب جولة أو جولتين أخريين فى حدود شهر يناير المقبل، وبعدها يمكن إعلان اتفاق ينهى الأزمة فى جانبها النووى، على أن تظل الجوانب الأخرى المتعلقة بالسلوك الإيرانى الإقليمى محل تفاوض مستقبلى، بعد أن تبدأ حالة ثقة نسبية بين الولايات المتحدة وإيران.
 
مجمل الأمر أننا على مسافة قصيرة من وضع إقليمى جديد، ترفع فيه العقوبات تدريجياً عن إيران، وتعود الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مراقبة كل كبيرة وصغيرة فى المنشآت النووية الإيرانية، للتأكد من أن الخطوات التى اتخذتها إيران فى العامين الماضيين فى مجال تخصيب اليورانيوم لأكثر من نسبة 20 فى المائة لم تصل إلى حد إنتاج قنبلة نووية، مع التخلص من أى رصيد يتجاوز هذه النسبة تحت أعين الوكالة الذرية وخبرائها وشهود من القوى الكبرى.
 
المؤكد هنا أن أى اتفاق جديد بشأن البرنامج النووى الإيرانى تقبل به الولايات المتحدة والدول الأربع الأخرى دائمة العضوية فى مجلس الأمن، لن تقتصر نتائجه على طرفى الأزمة وحسب، بل ستكون له نتائج تخص الخليج وما حول الخليج. ويظل من المهم متابعة الموقف الإسرائيلى وكيف سيكون رد فعله على مثل هذا الاتفاق الجديد حال التوصل إليه.
 
تل أبيب لديها أهداف معينة، أهمها ألا تصل إيران إلى حد صُنع قنبلة نووية، وقد سعت إلى إفشال المفاوضات، وركّزت، حين واجهت جولات المفاوضات تعثّراً تقنياً، كل جهودها لإقناع الولايات المتحدة بالتخلى عن المفاوضات والدبلوماسية واللجوء إلى الخيار العسكرى للقضاء من وجهة نظرها على الخطر النووى الإيرانى. كما عمدت إلى إطلاق تهديدات صريحة بشن هجوم كاسح على المنشآت النووية الإيرانية بمفردها إن تطلب الأمر ذلك، وكشف مسئولوها العسكريون قبل السياسيين عن خطط وتدريبات وشراء أسلحة وذخائر مخصّصة لضرب المنشآت النووية المُحصنة فى أعماق الجبال.
 
وفى الجدل الإسرائيلى يتراوح الموقف بين ضرورة السبق بضرب برنامج إيران أياً كان الموقف الأمريكى رفضاً أو تأييداً، وبين التشكيك فى قيمة هجوم عسكرى إسرائيلى على المنشآت الإيرانية المنتشرة على مساحة جغرافية واسعة من البلاد، ولديها أنظمة دفاع قوية، جنباً إلى جنب أسلحة هجومية وصواريخ باليستية يمكن أن ترد بها طهران على إسرائيل، وهو ما وضح فى التدريب الإيرانى الأخير قبل أسبوع، والذى اشتمل على محاكاة ضربة صاروخية وبطائرات مسيرة إيرانية على مفاعل ديمونا النووى الإسرائيلى، فى رسالة واضحة بأن إسرائيل سوف تتحمّل عواقف كارثية إذا تعرّضت إيران لعمل عسكرى.
 
جدل الخبراء العسكريين الإسرائيليين، مدعوماً بتطرف المجتمع والحكومة، كشف أيضاً عن خطة يتم البحث فيها، قوامها توجيه ضربة إسرائيلية لضمان تعطيل البرنامج الإيرانى لعامين على الأقل، ما بين منتصف يناير إلى منتصف فبراير العام المقبل، باعتبار أن هذه الفترة ستكون إيران على أعتاب صنع قنبلة نووية، وستأتى الضربة الإسرائيلية لمنعها. والخطير فى الأمر التجاهل التام لأى اتفاق قد يتم التوصّل إليه، أو يكون المفاوضون على وشك التوصّل إليه، وأيضاً تجاهل أى رد فعل إيرانى محتمل على إسرائيل ذاتها وعلى المصالح الدولية الكبيرة جداً فى الشرق الأوسط ككل. والواضح أن سيطرة مبدأ التفوق الإسرائيلى الجامح على الذهنية السائدة فى المجتمع والنخبة الحاكمة، تدفع بها إلى الخيارات العنيفة الفاقدة لأبسط قواعد الرشد السياسى والاستراتيجى.
 
اتفاق متدرج فى أسلوب التطبيق، ويُبنى على التزامات متبادلة، هو أمر مرجّح إلى حد كبير، وفقاً للمتغيرات الراهنة، وما لم تضع الولايات المتحدة، بضغوط إسرائيلية أو غيرها، شروطاً قاسية لا تقبل بها طهران. وسيظل هناك جهد كبير مطلوب لإقناع الرأى العام فى الإقليم ككل، وفى الدول المعنية بأن هذا الاتفاق سيحقق حالة توازن تسمح بمحاصرة الأزمات الأخرى، وترفع درجة الاستقرار الإقليمى. والمهم فى الأمر أن اتفاقاً كهذا سوف يضيف إلى مصداقية الرئيس بايدن بأن الدبلوماسية يمكنها أن تحقق أهداف الأمن القومى لأمريكا ولدول أخرى كثيرة. ولعل هذه النقطة تحديداً قد تدفع واشنطن لإحكام السيطرة على أى اندفاع إسرائيلى نحو أى عمل عسكرى طائش يجر الويلات على الأمن العالمى كله.
 
نقلا عن “الوطن”

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى