الخليج العربي والعروبة الثقافية
مصطفى الفقي
تتميز منطقة الخليج العربي بأنها تمثل الحافة الشرقية التي تمتد جنوباً من المحيط الهندي لتصل شمالاً إلى تخوم تركيا وشمال إيران بحيث تصبح هي الحارس القومي للشخصية العربية على امتداد طويل لا تخطئه العين، ونظراً إلى أن التجمع السكاني لدول الخليج من ذوي الأصول العربية هم عرب ينتمون إلى عشائر معروفة وقبائل سكنت تلك المناطق عبر العصور، فإن عروبتهم خالصة لم تختلط بها، إلا بنسب قليلة، دماء الموالي والعجم وغيرهم من أبناء الأمم المجاورة، ولكن عندما تفجّر النفط في بلادهم أصبحت مركزاً للجذب، ما أدى إلى أن وفدت عليهم ملايين من دول مختلفة بدءًا من الهند وباكستان، مروراً بإيران وأفغانستان، وصولاً إلى الآتين من دول المشرق العربي ومصر والمغرب، فأصبحت لدى هذه المنطقة بوتقة متميزة من العناصر السكانية المختلفة التي جاءت إليها طلباً للرزق وبحثاً عن فرص العمل وسعياً نحو حياة أفضل، وقد خشي كثيرون على عروبة ذلك الخليج من تزاحم الأطماع وتسرب الثقافات على نحو ينتقص من الهوية العربية لتلك المنطقة العزيزة على قلوب العرب جميعاً، ولنا هنا أن نبسط الحقائق التالية:
أولاً: لا يختلف اثنان على أن الدماء العربية الخالصة لأولئك الذين عاشوا في الجزيرة وخرجوا منها إلى مناطق مختلفة في العراق والشام ثم اتجهوا جنوباً وعبروا البحار إلى الطرف الآخر من القارة الآسيوية، هؤلاء العرب الأقحاح هم أولى الناس بصفة العروبة وذلك لا ينتقص بالطبع من قولنا إن العربي هو كل من كانت لغته الأولى اللغة العربية، وعلى ذلك فإن عروبة الخليج قاطعة لا لبس فيها ولا وهم، إنما هي حقيقة خالصة يؤكدها تاريخ تلك المنطقة والهجرات التي خرجت منها وقبل ذلك القبائل التي وفدت إليها، فالعروبة بهذا المعنى واضحة تردّ سكان تلك البقاع إلى أصولهم الحقيقية وجذورهم الأولى وتجعلهم دائماً أحق الناس بالمكون العروبي من حيث الأنساب والأعراق والأصول التي تحددها الدراسات الأنثروبولوجية.
ثانياً: لقد أدى اكتشاف النفط مع بدايات الربع الثاني من القرن العشرين إلى نقلة نوعية هائلة لسكان تلك المناطق تشير بوضوح إلى تحولات اجتماعية وثقافية فرضت نفسها على المقيمين في دول الخليج أو الوافدين إليها، مع وجود مؤثرات خارجية في أسلوب الحياة ونوعية التعاطي مع القوى الكبرى التي بدأت ببريطانيا ثم ورثتها الولايات المتحدة الأميركية مع نهايات الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية وتبدل أحوال المنطقة على نحو غير مسبوق، لذلك فإننا نظن أن ظهور النفط كانت له نتائج عدة سلبية وأخرى إيجابية، فأما الجانب السلبي، فيتركز في أن شهية الغرب قد تفتحت على المنطقة وظهر التكالب عليها وأما الجانب الإيجابـي، فهو أن الخليج والجزيرة معاً أصبحا مركز استقطاب لرؤوس الأموال والشركات الكبرى مثل “أرامكو” في السعودية ونظيراتها في الدول البترولية المجاورة.
ثالثاً: يعتبر الجوار الفارسي العربي أكثر أنواع الجوار تأثيراً بسبب التداخل الجغرافي والتماثل الديني والمذهبي، لذلك ظلت إيران وتركيا القوتان اللتان تتنافسان تاريخياً بالتأثير الثقافي لا في الخليج العربي وحده ولكن بين دول المشرق العربي كذلك، فالسيطرة العثمانية قد مارست وجودها امتداداً من دول البلقان وصولاً إلى جنوب الجزيرة، ومن حدود العراق الشرقية إلى تخوم المغرب العربي على الجانب الآخر، حتى استفاقت المنطقة على تلك الثورة النفطية الهائلة التي غدت عنصر جذب آخر يسيطر على الاقتصاديات الريعية لدول الخليج، وإذا كانت أطماع تركيا اقتصادية بالدرجة الأولى، إلا أن أحلام إيران تتجاوز ذلك إلى رغبة دفينة بالسيطرة السياسية وتحويل الخليج إلى منطقة نفوذ لها. وعندما قامت الثورة الإسلامية في إيران ووصل الملالي إلى الحكم عام 1979، فإن طهران تحولت إلى عاصمة تحاول الاشتباك مع الدول الأخرى في المنطقة واعتبرت التدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج حقاً تاريخياً وصكاً مشروعاً تمضي وراءه باعتباره المجال الحيوي للإمبراطورية الفارسية القديمة، وقد أدى الصدام بين الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل في جانب والجمهورية الإسلامية الإيرانية في جانب آخر إلى حالة من التوتر الدائم الذي انعكس على دول الخليج واستقرار نظمها وثبات أوضاعها، ولا يزال الصدام مستمراً يأخذ أشكالاً متعددة من الصراع المذهبي تارة إلى الخلاف العقائدي أخرى، وكأن حوزة قم تسعى إلى السيطرة على حوزة النجف في ظل امتداد تاريخي لمواجهات معروفة بين أتباع المذهبين الشيعي والسني على ضفتي الخليج، ولقد نشطت أخيراً الروح الوطنية في منطقة عربستان لكي تكون هناك مواجهة قوية للأقليات العربية في الجنوب الغربي للدولة الفارسية بحيث تسعى تلك الجماعات إلى إحياء تراثها واسترداد ثقافتها على الرغم من قسوة إيران في قمع تلك الحركات التحررية.
رابعاً: إن السبيكة الثقافية التي يتمتع بها سكان الخليج العربي هي مزاج أصيل من الروح العربية والمؤثرات الفارسية والهندية، فإذا جلست إلى مائدة خليجية عامرة، فسوف تجد أطباق الطعام تعبّر عن التعدد الذي يحيط بمنطقة الخليج من كل اتجاه، فالمائدة عربية فارسية هندية ولا تخلو من لمسات عراقية وشامية بل ومصرية، لذلك فإن ثقافة أبناء الخليج تعتمد على قدر كبير من الانفتاح والرحابة تجاه الآخر، فلا يميلون إلى التشدد أو التعصب قدر ميلهم إلى التواصل والاندماج، وقد انعكس ذلك على تعاملهم مع الآخر بل إنني أظن أن ذلك واحد من المقومات الرئيسة التي استند إليها مجلس التعاون الخليجي باعتباره أكثر التجارب نجاحاً بين التنظيمات العربية المعاصرة بعد الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن تراجع دور الجامعة العربية لتفسح المجال للتنظيمات الإقليمية تمارس تأثيرها ويقع في مقدمتها مجلس التعاون الخليجي بما يعني في النهاية أن درجة الانصهار الثقافي من حيث المأكل والمشرب والملبس والمسكن هي أمور جمعت دول الخليج على الرغم من قلة عدد السكان وتزايد الأطماع حولها من كل اتجاه.
خامساً: إن الذين يزورون دول الخليج العربي يدهشون لدرجة التقدم الذي تحقق والكوادر العلمية الخليجية التي توافرت من حملة الشهادات العليا من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية على نحو يؤكد أن مستقبل تلك الدول يمكن أن يكون واعداً بحق، إذا بقيت معدلات التقدم فيها على النحو الذي نراه، خصوصاً أن معظم تلك الدول قد خرجت من دائرة الاقتصاد الريعي القائم على عوائد البترول إلى آخر متعدد المقومات، تدخل فيه الاستثمارات الجديدة والنشاط السياحي وغيرها من مفردات الحياة العصرية، بحيث تكون مصدراً للدخل الوطني على خلاف ما كان قائماً من قبل. فدول الخليج تأخذ طريقها نحو الحداثة والازدهار وتطرح ذاتها ككيانات مستقلة على الرغم من التشابه السكاني والتماثل المعيشي، وهي بذلك تحقق النموذج الجديد للدول الصغيرة عدداً الكبيرة قدراً وتأثيراً. ويُعدّ نموذج السعودية في أعوامها الأخيرة مثالاً باهراً للدور الذي تلعبه الدولة العربية الحديثة، تماشياً مع مستجدات العصر وتطوراته في الاتجاهات كافة.
إن استقراء المستقبل لدول الخليج العربي يؤكد تصاعد الروح العروبية فيها وقدرتها على الاستقلال الاقتصادي والسياسي وتنمية مواردها الطبيعية والبشرية والانتصار على مشكلاتها، التي اعترضت طريقها كتحديات أمنية وسياسية، حتى استطاعت في النهاية أن تفرض وجودها وأن تبلور شخصيتها وهويتها على نحو يدعو أحياناً إلى الانبهار والرضا بما بلغته تلك المنطقة من تقدم وازدهار في الأعوام الأخيرة.
نقلا عن اندبندنت عربية