أهم الأخبارمقالات

التلميح والتصريح في كلام أنور قرقاش

د. هيثم الزبيدي

الاستعراض العسكري الكبير الذي نظمه الحوثيون قبل أيام في صنعاء هو واقع الشرق الأوسط الجديد. كان الحوثيون، ومن خلفهم الإيرانيون، يريدون التأكيد على حقيقة أن أيّ صراع عسكري سيندلع في المنطقة سيكون محكوما بالمسيّرات وصواريخ كروز والصواريخ البالستية متوسطة وقصيرة المدى. هذه الأسلحة، وخصوصا المسيّرات، غيّرت قواعد اللعبة. ولا نحتاج أن نترك أنفسنا لجموح الخيال، فقد شهدنا الكثير من بداياتها في الحرب بين التحالف والحوثيين. لكن صورة حرب اليوم تعززت وصار واضحا أنها تراشقات بمسيّرات انتحارية وصواريخ كروز كما نرى في حرب أوكرانيا. مشاهد استهداف مسيّرات حوامة رخيصة تحمل قنابل يدوية بسيطة وتستهدف مواضع الجنود الروس أو الجنود الأوكرانيين، صارت مشهدا مألوفا على يوتيوب. الضربات بالمسيّرات الانتحارية والصواريخ الثقيلة والمتطورة وفرط الصوتية بين الطرفين أكثر من أن تحصى وهي واقع الحرب اليومي الذي لا يمتّ بصلة إلى مناورات الدروع التقليدية أو هجمات المشاة.
استعراض الحوثيين، الذي تزامن مع وصول وفدهم التفاوضي إلى الرياض، يحمل الكثير من الرسائل. مرة أخرى لا نريد أن نجمح بالخيال، فالهجوم على منشآت أبقيق عام 2019 كان لحظة فارقة في الصراع، وكان الرسالة المتكاملة الأولى بأن إيران، بشكل مباشر أو من خلال الميليشيات الحليفة، يمكن أن تحرق المنطقة. الحديث عن أن من الوارد أنها ستحرقها بأهل المنطقة وبنفسها هو موضوع جدل. إلى أيّ مدى يمكن أن تذهب إيران؟ من الصعب الرد.

المسيّرات وصواريخ كروز ضربت أبقيق بعد أن تسللت دون أن تتمكن الدفاعات السعودية من التصدي لها. لكن الدفاعات في الخليج تطورت وصار بوسعها إسقاط الكثير من المسيّرات والصواريخ المهاجمة. لكن كما نرى فوق سماء موسكو أو الضربات الأوكرانية في شبه جزيرة القرم، فإن منظومة دفاع شديدة التماسك ومتطورة مثل المنظومة الروسية، لا تستطيع منع هجوم مثل الذي نفذته صواريخ “ستورم شادو” على مقر البحرية الروسية في القرم قبل أيام. وسواء أكان سبب عدم القدرة على التصدي التام هو قدرة الصواريخ والمسيّرات على التسلل، أو لأنها مثل الذباب تتفوق بكثرة عددها، فيسقط البعض وتتسلل البقية، فإن لا حماية تامة أمام هذا السلاح المذهل.
لا شك أن المسيّرات وصواريخ كروز كانت في ذهن مستشار الرئيس الإماراتي للشؤون الدبلوماسية أنور قرقاش عندما كان يتحدث للمونيتور على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك قبل أيام. الإمارات تريد اتفاقية دفاع صارمة وملزمة مع الولايات المتحدة. الاتفاقية الحالية، التي كان أساسها اتفاقية عام 1994 وتم تطويرها باتفاقية عام 2017 أوائل عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، سقطت في أخطر امتحان. في يناير 2022، هاجم الحوثيون أبوظبي بصواريخ بالستية ومسيّرات. تم إسقاط الصواريخ، ولم تتمكن المسيّرات من إحداث تخريب يذكر. لكن الهجوم، عدا عن جوانبه التقنية المتعلقة بالمدى، سجل سابقتين خطيرتين: أن الحوثيين بوارد تجاوز الخطوط الحمراء حتى بعد انسحاب الإمارات العملي من حرب اليمن؛ وأن الحوثي وإيران قدّرا أن الاتفاقية الدفاعية مع الولايات المتحدة لن تفعّل وأنهما كما نجيا بفعلتهما في أبقيق، فإن الولايات المتحدة لن ترد دفاعا عن حليفها الأقرب في المنطقة. أقصى ما فعلته الولايات المتحدة هو أنها أعادت إرسال مقاتلات الشبح رابتور أف – 22 إلى قاعدة الظفرة بالقرب من أبوظبي. مر الهجوم الحوثي – الإيراني من دون عقوبة.
الأساس في التواجد الأميركي في الخليج هو الردع. في أيام الحرب الباردة كان ردع التوسع السوفييتي عالميا وخصوصا في المياه الدافئة. بعد هجاء ردع طموحات العراق أو إيران في مرحلة “الاحتواء المزدوج” في التسعينات. ثم وصلنا إلى ردع الإيرانيين تحديدا بعد غزو العراق. أخذت طهران وقتها في بناء قوتها العسكرية فيما بعد دمار الحرب العراقية – الإيرانية، ثم طورتها لتضيف إليها الصواريخ، ثم جاء عصر المسيّرات وصواريخ كروز. لا يزال أفضل سلاح في مواجهة إيران هو الردع أو التخويف من الرد القاسي. لكن في أكثر من مناسبة، ترك الأميركيون الخليجيين في مواجهة مواقف إستراتيجية محرجة. في بعض الأحيان تصرفت واشنطن بسلبية كبيرة مع أقرب حليفين، سواء بإيقاف أو تأخير تسليم ذخائر حيوية لإدامة الحرب في اليمن في حالة السعودية، أو من خلال عرقلة صفقة مقاتلات الشبح لايتننغ أف – 35 للإمارات.

الإيرانيون خبراء في تفسير مثل هذه الرسائل الأميركية. هذه مواجهة بين الطرفين بدأت عام 1979، وما زالت مستمرة. إشارات ارتعاشة اليد الأميركية في الخليج كانت أكثر من واضحة. وهو الموقف الذي يريد المستشار المخضرم قرقاش التلميح إليه عندما يتحدث عن اتفاقية دفاعية لا تقبل الأخذ والرد، ولا تتحمل التفسيرات أو تقلبات المزاج في واشنطن قربا أو بعدا من الخليج تبعا للموقف من الصين أو روسيا. الخليج لا يستطيع أن يحمي نفسه اعتمادا على مزاج ترامب أو حماس جو بايدن. في مواجهة عدو إيراني (أو ندّ لكي نراعي حالة الصفاء السياسي بين طهران والمنطقة) لا يختلف في طريقة تعامله مع الإقليم عن طريقة استفزاز روسيا لدول شرق أوروبا، تحتاج المنطقة ترتيبات بمتانة ترتيبات حلف الناتو: أمن هذه الدول خط أحمر لا يحتمل أيّ تفسير ولا محاولة مراوغة بالتعرض لدولة مثل الإمارات من خلال ميليشيا يعرف الجميع أن مرجعيتها الأولى والأخيرة في طهران.

تلميح قرقاش في حقيقته تصريح عن عدم الرضا الإماراتي عن الطريقة التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع أمن المنطقة. فواشنطن لا تكتفي بإرسال الإشارات الخطأ إلى إيران وميليشياتها كما حدث من انعدام رد الفعل بعد هجمات أبقيق وأبوظبي، بل تقول بما لا يقبل الشك إن الخليج ليس أولوية لها، وإن الأولوية هي التحدي الصيني الشامل. أي بمعنى آخر أنها تعطي كارتا أبيض لإيران إقليميا، طالما تصرف الإيرانيون بذكاء وحركوا ميليشياتهم في اليمن أو العراق أو وسوريا أو لبنان بحذر لتنفيذ استعراضات قوة مستفزة وخطرة ولكن تحت مستوى الخطر واسع النطاق الذي يهدد أمن المنطقة بشكل شامل. التقدير هنا إذا يخضع لطهران، وليس لخطوط حمراء تخطها اتفاقيات دفاعية مفترضة مع دول المنطقة. تركت واشنطن الكارت الأحمر الوحيد في المنطقة بيد إسرائيل التي لا تتوقف عن استهداف إمدادات المسيّرات والصواريخ إلى سوريا.

كلام قرقاش يعني أن مرحلة جديدة من العلاقة مع واشنطن قد حان أوانها. العمل في المنطقة الرمادية ما عاد واردا إذا كانت الولايات المتحدة فعلا حريصة على مصالحها ومصالح حلفائها. الخليج يستحق حرصا على الأمن لا يقل عن حماية الناتو لأوروبا أو ما تقدمه الولايات المتحدة من اتفاقيات أمنية لحماية اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. أمام حشد “الذباب” من المسيّرات الانتحارية التي يمكن أن تستهدف المنشآت الحيوية في الخليج، لا يمكن القبول بأقل من اتفاقيات ردع حاسمة أبعد ما تكون عن مزاجيات رئيس أو تجاذبات الكونغرس.

 

العرب اللندنية

 

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى