إيران والعودة إلى خيار التشدد
حسن فحص
الخطاب الذي قدمه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان من على منبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة وما فيه من إشارات واضحة على مد اليد الإيرانية باتجاه واشنطن لفتح صفحة جديدة من العلاقات والحوارات والتفاهمات، تبدأ من النووي وتمر عبر كل القضايا والمسائل العالقة بينهما، هذا الخطاب لم ينجح في فتح نافذة أمل لدى طهران بإمكانية إحداث خرق في المواقف الغربية، وتحديداً الأميركية المتعلقة بالملفات الإقليمية والدولية التي تدخل في إطار المصالح الاستراتيجية لإيران.
ولم تفلح الدقائق الـ90 التي استغرقها اللقاء الذي جمعه مع السياسي والأكاديمي الأميركي من أصول إيرانية ترتيا بارسي أحد أبرز أعضاء اللوبي الإيراني داخل الإدارة الأميركية “ناياك”، والخبير في دهاليز القرار في إدارة الخارجية والبيت الأبيض، والذي لعب دوراً محورياً في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما في تقريب وجهات النظر والمواقف بين طهران وواشنطن، لم يلفح هذا اللقاء ودقائقه في تحقيق الخرق الذي كان يأمله الرئيس الإيراني وفريقه الدبلوماسي وترجمة رهاناتهم بفتح صفحة جديدة على صعيد العلاقات الدولية.
ومن هنا، لم يكن مفاجئاً أن يصف الرئيس الإيراني العلاقة الغربية وبخاصة الأميركية والأوروبية مع بلاده ورسائلها الإيجابية نحو الانفتاح بأنها مواقف مخادعة، وأن إيران تعرضت للخداع عبر الوعود التي سمعتها من هذه العواصم في ما يتعلق بملف العقوبات الاقتصادية المبنية على الموقف من البرنامج النووي، فضلاً عما سمعته من وعود بالتدخل الفعال من أجل الحد من تصاعد الأمور في منطقة الشرق الأوسط، والعمل على فرض وقف لإطلاق النار في الحرب الدائرة بين إسرائيل وحركة “حماس”.
وتفاقم الشعور بالخدعة لدى الرئيس وفريقه وفشل كل رهاناتهم في فتح قنوات حوارية تساعد على الانتقال إلى مرحلة جديدة من العلاقات بين طهران والمجتمع الدولي، تفاقم بعد العملية الأمنية التي قامت بها تل أبيب وأدت إلى اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني حسن نصرالله، وهي العملية التي أتت بعد تجاوب إيراني مع الرغبات الأميركية والأوروبية بضبط النفس وعدم الرد على انتهاك تل أبيب السيادة الوطنية وأمنها القومي، باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية على أراضيها.
التصعيد الإسرائيلي باتجاه لبنان وتوجيه ضربة مؤلمة وقاسية باغتيال زعيم “حزب الله” اللبناني الذي تحول إلى رأس المشروع الإيراني في الإقليم، وسد الفراغ الذي نتج من اغتيال قاسم سليماني قائد “قوة القدس”، هذا التصعيد فجر التباين بين اتجاهين متعارضين داخل منظومة السلطة، أي بين التوجه الحواري والانفتاحي الذي يقوده الرئيس وفريقه الذي اختير بدقة وعناية من أجل هذه المهمة، والتوجه الذي يدعو إلى مزيد من التشدد ورفع مستوى التصعيد العسكري والأمني لمواجهة الطموحات والمشاريع الإسرائيلية في الإقليم على حساب المصالح الإيرانية في المنطقة.
وعلى رغم الجهود التي بذلها المرشد الأعلى للنظام في ضبط هذا التباين بين التوجهين فإن الرسالة الأميركية غضت النظر عن الإيجابية التي سيطرت على الخطاب الرسمي الإيراني، وما حملته مواقف المرشد والرئيس من رسائل وذهبت إلى خيار توفير وتأمين الغطاء السياسي والعسكري للعملية الإسرائيلية ضد زعيم “حزب الله” ولبنان، وفي الوقت نفسه التمسك بالموقف الرافض أية تسوية تؤدي إلى وقف لإطلاق النار في غزة.
لم يكن بمقدور المرشد ألا يقرأها بما فيها من أخطار وتهديد لأمن إيران الداخلي وموقعها على خريطة المعادلات الإقليمية، مع شعور متزايد لدى المرشد بأن الإدارة الأميركية وقيادة تل أبيب أساءتا فهم الرسائل التي تضمنتها مواقفه بإعطاء الضوء الأخضر للحكومة بإمكانية الحوار مع “العدو”، مع توفير الغطاء الأيديولوجي والعقائدي لمثل هذه الخطوة باستخدام مصطلح الانسحاب التكتيكي وليس المبدئي والاستراتيجي من أجل الحفاظ على المصالح العليا.
وأمام حجم التحديات والأخطار التي نتجت من الخطوة الإسرائيلية والغطاء الأميركي يبدو أن مساحة الخيارات أمام المرشد ضاقت بصورة كبيرة، نتيجة الحقائق التي ظهرت على السطح جراء التشدد الأميركي ورفضه التعامل مع الإيجابية الإيرانية، وأن المطلوب هو إخراج إيران وإبعادها من طاولة التفاوض حول المعادلات الجديدة للمنطقة وعدم مراعاة أي من مصالحها الاستراتيجية والقومية في الداخل والإقليم.
وللخروج من ثنائية التجاذب بين خيارين، إما خيار التنازل عن كل أوراقه والقبول بما يعرض عليه من أجل الحفاظ على بقائه، وبخاصة أن من أهم الأسس التي قام عليها دستور “الجمهورية الإسلامية” هو الحفاظ على بقاء واستمرار النظام، مدعوماً بموقف أيديولوجي أسس له الزعيم المؤسس الذي اعتبر أن “حفظ النظام أهم من الإمام المهدي المنتظر”، بالتالي تثبيت التهم على نفسه بأنه رضخ للتهديدات وانساق وراء مخاوفه من السقوط، وباع حلفاءه والقوى الموالية له في الإقليم. وإما الذهاب إلى خيار المقامرة بكل شيء أو خلط الأوراق على جميع اللاعبين. وجاءت الضربات الصاروخية التي أطلقت عليها طهران اسم “الوعد الصادق 2″، والتي استخدمت فيها نحو 200 صاروخ باليستي، تحت شعار انتقام طهران من إسرائيل بسبب انتهاكها السيادة الإيرانية واغتيال كل من إسماعيل هنية وحسن نصرالله والجنرال الاستراتيجي في قوات “حرس الثورة” وقائد عملياته عباس نيلفروشان.
من هنا يمكن اعتبار المغامرة الذي ذهب إليها النظام والمرشد باتخاذ قرار توجيه ضربة صاروخية لإسرائيل، وإن كان العنوان المباشر هو الانتقام لاغتيال أهم حلفين له في الإقليم ودفاعاً عن السيادة القومية والوطنية، إلا أن الهدف الأساس والرئيس لها أنها عملية من أجل الحفاظ على موقع إيران على الخريطة الإقليمية ومعادلات الحلول المقبلة في الإقليم، وبخاصة أن عدم الرد سيعني إعطاء مزيد من المساحة للخصم والعدو الإسرائيلي بالإمعان في تحدي وإضعاف الموقف الإيراني وصولاً إلى إنهاء دوره. وإن المغامرة في الذهاب إلى خيار الرد ستبقي على ما تحقق من إنجاز على مستوى الصراع بينه وتل أبيب، والذي عبر عنه نائب الرئيس للشؤون الاستراتيجية وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف خلال لقائه مع قناة “سي أن أن” قبيل وصول بزشكيان إلى نيويورك، بأن الهدف الإيراني من الحرب التي تشهدها المنطقة في لبنان وغزة وما تقوم به اليمن حقق الهدف المطلوب منه، وهو “كسر الوهم الإسرائيلي بالتفوق” في الإقليم، بالتالي فإن النظام في طهران بات لاعباً محورياً على أية طاولة للتسويات الدولية والإقليمية.
نقلا عن اندبندنت عربية