إيران ما بعد الاحتجاجات: دولة الحرس الثوري
يوسف الديني
ربما كان التحدي الأكبر الذي يعيشه نظام طهران اليوم، هو استعادة سيادة الدولة من هيمنة «الحرس الثوري» المرشحة للصعود وصولاً إلى ابتلاع المؤسسات، وربما مزاحمة النظام السياسي، حسب كثير من التحولات الضاغطة على مستوى القلق من مشروع إيران التوسعي وتهديدها للمنطقة، إضافة إلى تراجع مستوى الشرعية في الداخل الإيراني إلى مستويات متدنية، وإن لم تصل إلى مرحلة تقويض النظام.
وحسب أوراق بحثية كثيرة تحدثت عن إيران ما بعد الاحتجاجات، وتقديرات الموقف الصادرة عن مراكز دراسات وبيوت خبرة، فإن «الحرس الثوري» مرشح ليكون البديل الأكثر صعوداً والأسوأ من حيث التأثير على الداخل، قبل خدمة المشروع التقويضي، وتهديد أمن المنطقة، وهو ما عبرت عنه بشكل دقيق سانام فاكيل، الخبيرة في «Chatham House» ومسؤولة الملف الإيراني والخليجي؛ حيث تؤكد أن هناك تكهنات كبيرة اليوم بشأن استيلاء «الحرس الثوري» الإيراني على الحكم، بعد شهور من الاحتجاجات، وهو ما يضعه في مقدمة المرشحين لتحولات كبرى على مستوى الدولة، وتحولها إلى دولة ليست ثورية فقط؛ بل وعسكرية، وببعض التوجهات ذات النزعة الليبرالية في الإطار الاجتماعي للسيطرة على منسوب الاحتجاجات، كما تشير إلى الانقسامات الكبيرة في داخل مجموعات «الحرس» على خلفية الولاء للمرشد، والارتباط به، ولكن جناح ما يوصف عادة في الأدبيات حول إيران بـ«حراس الجمهورية» لديه توجهات أمنية حول الاستراتيجية المثلى لحماية النظام من الانقسامات الداخلية أو حتى الضغوطات الخارجية، وهو ما يفسر ارتباط منسوب القمع الذي شمل آلاف الاعتقالات وخمسة إعدامات دون اكتراث بتأثير ذلك على الداخل.
صعود «الحرس الثوري» وإحكام قبضته، مع تحولات قد يبديها على المستوى الاجتماعي، توحي للمتابعين الغربيين بالانفتاح، هو يعني ببساطة دمجاً خطراً وهجيناً بين القومية والشوفينية العرقية الفارسية والراديكالية الثورية، مما يعني محاولة تحشيد الداخل الإيراني لمشروع الملالي؛ لكن بلغة وتوجهات مختلفة.
هذه الرؤية الاستشرافية لمستقبل إيران القريب قد لا تعكس قراءة دقيقة لقوة الحضور الفاعل للمؤسسة الدينية وسلطة الملالي ورمزيتهم؛ لكنها مؤشر على لحظة فارقة في تاريخ إيران الحديث الذي تشكلت فيه قوة «الحرس الثوري» لحماية البناء الهيكلي لرؤية الملالي التي شكلت نسغ الثورة ومتنها الأساسي، وكانت عاملاً في شعبيتها في البدايات؛ لكن بقاء «الحرس الثوري» على تلك المهمة محكوم بفاعلية ونشاط ومواءمة المرشد الأعلى، وقدرته على الاستجابة لتحديات الداخل، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب؛ بل على مستوى «الهوية» الخاصة بالثورة، والتي باتت مفارقة للهويات الفرعية والسياق العام للأفكار لدى الإيرانيين؛ خصوصاً الأجيال الشابة.
ما يؤكد صعوبة السيناريوهات التي تتحدث عن هيمنة محتملة لـ«الحرس الثوري» وقفز على السلطة، هو أن هوية الميليشيات التابعة لإيران مبنية على الهوية الأساسية للثورة، وهي مقولات دينية راديكالية شعبوية، فالإسلام السياسي الشيعي أكثر تراتبية وانضباطاً من كل نظرائه في التيارات الحركية الأخرى، لذلك فإن الولاء للمرشد والمرجعيات التابعة له قد يشكل حجر عثرة أمام أي احتمالية من هذا النوع. وقد تحدثت في مقالات سابقة عن تفوق الحركية الشيعية في الإسلام السياسي، إذا ما قرأنا ذلك خارج أقواس الطائفية وداخل مختبر الفحص السياسي؛ حيث نجد حالة من التراتبية الدقيقة والمعقدة داخل نسيج التكوين المدرسي الديني، شكلت جزءاً من أسباب ولاء المجموعات المسلحة والميليشيات، وهذا لم يكن موجوداً في النماذج السنية؛ حيث الانفصال بين المؤسسات التقليدية والحركات المتطرفة الذي يصل إلى الاقتتال وسلب الشرعية مبكر جداً؛ لكن الميليشيات والتنظيمات المسلحة الشيعية لا ترى نفسها نداً للمؤسسات التقليدية أو حركات التمدد الناعم بأدواته الدعوية والشرعية، فالجميع متكاملون في خدمة المشروع العام للإسلام السياسي الشيعي المتحالف مع التنظيمات الإرهابية ذات الطابع السني؛ حيث تحدث لحظة الاصطدام فقط على مناطق النفوذ والجغرافيا، بينما هناك علاقات وثيقة على مستوى المشروع التقويضي العام للدولة الحديثة القُطرية، وهو ما يلقي بمزيد من التحديات الأمنية.
هناك اليوم اهتمام متزايد لدى الخبراء والباحثين حول حدود وقدرة «الحرس الثوري» على التغيير، كما هي الحال مع الجدل السياسي والقانوني حول إدراجه كمنظمة إرهابية، باعتباره القبضة المسؤولة عن حالة القمع ضد الاحتجاجات، وكان آخره الجدل الذي دار في أروقة الاتحاد الأوروبي حول تصنيفه كمنظمة إرهابية، وجاءت نتيجة التصويت 598 صوتاً مؤيداً مقابل 9 أصوات معارضة، مع غياب 31 عضواً، وهو رقم كبير جداً؛ لكنه لم يجد طريقه للتنفيذ، واكتفى الاتحاد بفرض عقوبات على مزيد من الأفراد الضالعين في الانتهاكات.
صعود نقد «الحرس الثوري» والمؤسسة الأمنية في إيران من المرشح أن يتصاعد، ليس فقط لتهديدها لأمن المنطقة وعلى رأسها دول الخليج؛ بل هو بالنسبة للأوروبيين اليوم لأسباب إضافية تتصل بالنزاع بين روسيا وأوكرانيا، ودخول إيران على خط إمداد موسكو بطائرات من دون طيار، وهو ما عبَّر عنه صراحة ماثيو ليفيت في ورقته لمعهد واشنطن التي عنوانها: «لماذا يجدر بالاتحاد الأوروبي إدراج الحرس الثوري على قوائم الإرهاب» التي أكد فيها أن توفير طائرات «الدرونز» هو أحد أهم الأسباب، إضافة إلى الدعم المادي واللوجستي لوكلاء طهران من التنظيمات الإرهابية.
الشرق الاوسط