مقالات

إيران “الحرس”: عودة الى حافة الهاوية

عبدالوهاب بدرخان
 
فيما كان إبراهيم رئيسي يعلن أولوياته، يوم تنصيبه، كان العالم أكثر اهتماماً بأولويات “الحرس الثوري” الإيراني. قال الرئيس الجديد، وهو قديم في النظام وأروقته المظلمة، إنه يريد انقاذ الاقتصاد الداخلي برفع العقوبات الأميركية “غير القانونية” من خلال مفاوضات فيينا، ويسعى الى تحسين العلاقات مع دول الجوار، أي بشكل أساسي مع دول الخليج. لم يوضح كيف سيحصل على اتفاق مع الاميركيين من دون تنازلات، فهذا من شأن المرشد علي خامنئي. ولم يفصح عما إذا كانت تهديدات إيران وتدخّلاتها في أربع دول عربية “قانونية” أم لا، أو إذا كانت الميليشيات المحلية “قانونية”، فهذا شأن “الحرس” الذي سيكون منذ الآن صانع سياسات داخلية وخارجية في مرتبةٍ ما بين الظل والواجهة.
 
كانت سياسات حسن روحاني وفريقه “الأميركي”، كما يُوصف داخل النظام، استطاعت أن تأتي باتفاق نووي يؤمّن رفع العقوبات تدريجاً. أما كيف تعاملت أجنحة النظام، من المرشد الى “الحرس” الى زُمر المحافظين المتشدّدين، مع هذا الاتفاق، وكيف حالت دون تفعيله وفقاً للمنطق الذي بني عليه، أي في اتجاه وضع العلاقات مع الولايات المتحدة في مسار انتقالي يفترض أن يفضي الى نوع أو درجة ما من التطبيع، فهذا كان خارجاً عن إرادة الجناح “الإصلاحي”.
 
وحين استخلص خامنئي، الحاضر في الاجتماع الأخير لحكومة روحاني، أن تجربتها “أثبتت أن الثقة بالغرب لا تنفع”، فلا بد أن الرئيس السابق كتم أن ثقة الغرب بالنظام لا تنفع أيضاً، بل ربما جعلته تجربته يدرك أسباب ضياع “الإصلاحيين” بين الأجندات المتصارعة: النظام لا يريد اصلاحاً على الاطلاق، والغرب لا يمكن أن يقبل هذا النظام كما هو، أما “الاتجاه شرقاً” فيرسّخه في ممارساته التي بات الإيرانيون يرفضونها قبل سواهم.
 
جملة تطوّرات استبقت تنصيب رئيسي وتخلّلته وتلته، وشكّلت عملياً أولوية “الحرس” وافتتاحه المرحلة الجديدة. للمرة الأولى هُوجمت الناقلة “ميرسير ستريت” في بحر عُمان بطائرة مسيّرة وقُتل اثنان من طاقمها الأمني، بريطاني وروماني، وليس من قبيل الصدفة أن شركة بريطانية يملكها إسرائيلي هي التي تديرها. وللمرة الأولى أيضاً يصار الى تعطيل نظام التشغيل في ست سفن بهجمات سيبرانية ثم تُخطف احداها وتُفلت مع الإيحاء بأن خاطفيها قد لا يكونون إيرانيين. وللمرة الأولى كذلك تُضطر سلطنة عُمان الى تحريك اسطولها بغية حماية الناقلات، فثمة تحدٍّ هنا يتخطّى الطابع الودّي للعلاقة بين السلطنة و”الجمهورية الإسلامية”، خصوصاً أن الهجوم على الناقلة المنسوبة لإسرائيل أطلق حملة ديبلوماسية محمومة وتهديداً أميركياً بريطانياً بـ “رد مناسب”. أما إسرائيل فستردّ على طريقتها، داخل إيران على الأرجح، وبتنسيق مع الاميركيين والبريطانيين.
 
مع استئناف التوتير البحري، أراد “الحرس” استباق أي تفكير في ردٍّ مباشر على إيران، بعد اتهامها بهجوم الطائرة المسيّرة، وبالأخص بعدما ضاعف الإسرائيليون التلويح باستعدادهم لمهاجمة إيران. لذا عمد “الحرس” الى التذكير بأن ميليشياته جاهزة للتحرّك، وبما أن جنوب لبنان باقٍ جبهة مفتوحة لـ “تبادل الرسائل” فقد أُفلتت منه صواريخ “لا علاقة لها بحزب الله” لكنها أطلقت بعلمه وبتوجيهات إيرانية. ردّت إسرائيل أولاً بشكل متناسب، ثم بغارات جوية استدعت ردّا صاروخياً معلناً باسم “الحزب”، وبعدها أكد الطرفان عدم رغبتهما في التصعيد، إلا أن مؤشرات الحرب على هذه الجبهة تتزايد على وقع انسداد سياسي ليس في تشكيل حكومة جديدة فحسب بل تحديداً بالنسبة الى السياسات التي ستتبعها أي حكومة إذا قدّر لها أن تبصر النور، فمن ينقذ الاقتصاد يحكم لبنان، وهذا لا يريح نظام الملالي.
 
في الوقت نفسه، لم يرضَ “الحرس” بالاتفاق الأميركي – العراقي على سحب القوات القتالية والحفاظ على أنشطة التدريب والتسليح والتعاون الاستخباري، فأوعز الى الميليشيات الولائية في العراق باستئناف الهجمات على القواعد العسكرية والمنطقة الخضراء، مع تكثيف استخدام الطائرات المسيّرة. وفي الخط نفسه تندرج إستهدافات الحوثيين للأراضي السعودية، بموازاة رفضهم المطلق لمبادرات وقف إطلاق النار وعقد مفاوضات سياسية. وحتى في سوريا يُتوقّع أن تتكثّف هجمات الميليشيات ضد الاميركيين في الشمال الشرقي، أما حصار درعا وانتهاك اتفاقات التسوية بينها وبين نظام بشار الأسد فيُعزيان الى الدور الإيراني عبر “الفرقة الرابعة” ورغبة النظام في الحدّ من النفوذ الروسي في جنوب سوريا. وتترقّب دمشق وطهران بتشكيك وحذر نتائج المحادثات الاستراتيجية الجارية بين الاميركيين والروس.
 
في الأثناء، ومع جمود مفاوضات فيينا عند الشروط والشروط المضادة، وفي انتظار حكومة رئيسي، ليس هناك تصوّر واضح للمناخ الذي سيسود انطلاق جولتها السابعة في ضوء استهجان خامنئي ربط واشنطن عودتها الى الاتفاق النووي بإجراء مفاوضات لاحقة تتعلق بالبرنامج الصاروخي و”قضايا إقليمية”. لم يكن له أن يتوقّع شيئاً آخر، فالرئيس جو بايدن وجميع أعوانه وعدوا، قبل انتخابه وبعده، بالعودة الى اتفاق نووي معدّل، لإطالة مداه الزمني وتشديد قيود الالتزام والرقابة على أنشطة المنشآت، ومستكمل ببتّ الملفات المرتبطة به. لو قبلت طهران مساعي الوسطاء الأوروبيين، مطلع 2018، لوضع صواريخها وسياساتها الإقليمية موضع تفاوض، لما انسحب دونالد ترامب من الاتفاق النووي ولما شدّد العقوبات. المؤكدّ أنها لا تزال ترفض.
 
لا شك أن واشنطن وطهران تريدان احياء الاتفاق، لكن أسبابهما متباعدة وشروطهما متنافرة واستراتيجيتاهما متناقضة. لا يمكن أميركا رفع “كل العقوبات” والاكتفاء بالاتفاق النووي حتى مع تعديلاته التي لم تُحسم بعد، ولا يمكن إيران الإصرار على الاتفاق من دون تعديل وقبول رفع جزئي للعقوبات. كلا الطرفين يريد أن يؤسس لما بعد الاتفاق، ولذلك فإن تعثّر المفاوضات وتعقيدها سينعكس على الواقع الميداني. الخيار الجاهز لدى “الحرس” هو العودة الى سياسة حافة الهاوية التي سبق أن مارسها في مراحل سابقة من التفاوض، مستقوياً هذه المرّة بأن ميليشياته المنتشرة لم تعد مجرّد مجموعات مسلّحة بطموحات محدودة، بل أصبحت “جيوشاً” موازية أو بديلة تملك أسلحة ثقيلة وصواريخ، ولم تعد ترضى لنفسها في بلدانها بمنزلة أقل من منزلة “الحرس” الذي أصبح الآن في صدارة النظام الإيراني.
 
نقلا عن “النهار”

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى