هل فشلت المعارضة الإيرانية بإنتاج مشروعها البديل؟
حسن فحص
بعد عودة الهدوء النسبي إلى الشارع الإيراني وتراجع حدة الاحتجاجات التي تفجرت قبل نحو أربعة أشهر، من الطبيعي والمفترض أن تعود كل الأطراف المعنية بالحراك، إن كان في صفوف المعارضة أو في صفوف النظام، لمراجعة الأحداث وقراءة النتائج وتحديد المكاسب والخسائر التي لحقت بكل منهما.
إذا ما كانت عملية رصد تداعيات هذا الحراك على النظام والداخل الإيراني تكشف الكثير من نقاط الضعف التي لحقت به وبقدرته على السيطرة والقبض على الأوضاع كما في السابق، فإن الأهم من ذلك، ما كشفته هذه الاحتجاجات وطبيعة الشعارات والمطالب التي رفعتها، عن تصدع داخل البيت الداخلي للقوى الموالية للنظام، والتي تعتبر وتشكل قاعدته الشعبية والحامل الأساس لمنظومته السلطوية ومشروعه على طريق بناء سلطة دينية أو “حكومة إسلامية”، كما في الأدبيات السياسية التي يعتمدها لتوصيف مشروعه.
وعلى رغم وضوح هذه التصدعات داخل المنظومة الحاكمة على المستويين الفكري- الثقافي والتنفيذي، فإن المعارضة لم تكن بمستوى هذا التحدي الذي أسهمت في وجوده وإنشائه، والذي لم يسبق أن واجهه النظام سابقاً مع كل حركات الاعتراض التي خرجت في مراحل سابقة، حتى مع الحركة الخضراء عام 2009، أو غيرها من التحديات السياسية والأمنية.
ما يمكن التوقف عنده، أن المعارضة الإيرانية، وخصوصاً تلك التي تنشط في الخارج، قد كشفت حجم التشتت الذي تعيشه، وأن العامل الوحيد الذي يجمع بين مجموعاتها هو الاتفاق على “السلب” أي رفض النظام وسلطته وسياساته، وهو اتفاق من الصعب أن يتحول إلى مصدر تهديد حقيقي، بخاصة بعد تفجر الخلافات بين أقطابها ومحاولة كل من هذه الأقطاب جر وسحب الحدث الداخلي باتجاهه، وتحويله إلى رصيده الخاص في صراعه مع النظام في الداخل، ومحاولة الحصول على دعم دولي يكرسه بديلاً محتملاً للنظام في حال سقوطه.
ولعل أهم أزمات معارضة الخارج، التي كشفها هذا الحراك بما شكله من تحد حقيقي للنظام على المستويين الفكري والثقافي، كان عجزها عن إنتاج قيادة فردية أو جماعية، قادرة على أن تكون نقطة التقاء واجتماع وإجماع بين القوى الناشطة في دول الانتشار الإيراني، إضافة إلى قدرة هذه القيادة على استقطاب الحراك الداخلي وتأطيره وتوجيهه حتى لا يكون فريسة سهلة لأجهزة النظام، التي لن تتردد في استخدام جميع الوسائل القمعية والقضائية والأمنية والأخلاقية لتفكيك وتشتيت هذا الحراك وقطع الطريق ومنعه من تحقيق أهدافه والوصول إلى الغاية التي خرج من أجلها. ولعل المؤشر على هذه الأزمة الخطوة التي لجأ إليها رضا محمد بهلوي ولي عهد إيران السابق، بتوجيه رسالة موحدة بمناسبة السنة الجديدة بالاتفاق مع بعض الشخصيات الناشطة، والتي لا تشكل ثقلاً سياسياً واضحاً، باستطاعته الانتقال للعب دور المحور الجامع الذي تتفق عليه معارضتا الداخل والخارج.
وما كشفه الحراك، أن معارضة الخارج والتي من المفترض التعويل عليها في أحداث النقلة السياسية في موقع إيران، كانت عاجزة عن صياغة مشروع سياسي بديل للنظام القائم في طهران، نتيجة عدم وجود رؤية مشتركة واضحة حول مستقبل إيران، الأمر الذي حولها إلى حد كبير ورقة في يد القوى الدولية لتوظيفها في ابتزاز النظام الإيراني والضغط عليه في أكثر من ملف، لعل في مقدمها ملف المفاوضات النووية وملف النفوذ الإقليمي، وحتى في ملف تورطه في الحرب الأوكرانية إلى جانب روسيا.
ولعل من أسباب ضعف المعارضة الإيرانية، وتحديداً في الخارج، أنها عجزت عن قراءة الوضع الداخلي، وتعاملت مع حساسياته بطريقة فوقية بعيداً من فهم الآليات التي قد تسهم في تحفيزه وتحريكه، مكتفية بالاعتماد على حالة التململ والمطالبات الحياتية والمعيشية والعملية، وأنها قد تتحول إلى موجات بشرية في الشارع تطالب بالتغيير. ما أدى إلى فشلها في رفع مستوى الحراك والاحتجاج وتحويله إلى حالة عامة، وحتى في دفع الشريحة الواسعة من إيرانيي الداخل المعارضين للنظام، والذين اعترفت إحصاءاته وأجهزته المختصة بأنهم يشكلون ما نسبته 83 في المئة من الإيرانيين.
وهنا لا بد من التوقف لقراءة طبيعة المعارضة في الداخل والتي اعترف النظام بأنها كبيرة وواسعة، تضعه مع الشريحة الموالية له في خانة الأقلية الاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية. فالظاهر والواقع أنها معارضات وليست معارضة واحدة، تختلف كل واحدة منها في أهدافها ومطالبها، إلا أنها تجتمع من غير اتفاق على مرحلية ومحدودية الأهداف التي تحركها، وهذا ما أثبتته إلى حد كبير الموجة الأخيرة من الاعتراضات التي خرجت مطالبة بحرية الحجاب بعد مقتل الفتاة مهسا أميني. إذ تراجع الزخم الذي شهده الشارع بعد أن استطاع المحتجون كسر قانون إلزامية الحجاب وتراخي قبضة النظام الأمنية في ملاحقة حالات السفور، بما يشبه الاعتراف الضمني بكسر هيبته والخرق الحاصل لمنظومته الثقافية، بانتظار اللحظة والفرصة المناسبتين لمعاودة الانقضاض على هذه الظاهرة، ومحاصرتها بوسائل مختلفة هذه المرة لا تشكل فيها شرطة الأخلاق التي حلت أو علق نشاطها، الذراع التنفيذية لذلك.
لا شك في أن عوامل كثيرة أسهمت في رسم المشهد الاعتراضي في إيران، وجعل الموجة الأخيرة للاعتراضات محطة من محطات الحراك الشعبي المطلبي أو التغييري. وإذا ما كان الحراك الأخير قد يدفع النظام لإعادة حساباته وترميم سلطته وقدرته وتأمين استمراريته، إن كان من خلال القيام ببعض الخطوات والمعالجات الأمنية والاقتصادية، أو في الذهاب إلى مزيد من التشدد والقمع لتثبيت سيطرته بالاعتماد على الشريحة المؤيدة له والاكتفاء بها، فإن المعارضة في الخارج من المفترض أن تدخل في حالة تقويم قدراتها لمعرفة أماكن الخلل والإخفاق التي عانت وتعاني منها.