“طوفان” أم نكبة ثانية؟
طوني فرنسيس
تشبه ليالي غزة ونهاراتها أيام بيروت المحاصرة في صيف 1982، قصف بري وجوي وبحري متواصل، دمار وقتل وضحايا، ومنشورات يلقيها الطيران داعياً السكان إلى الخروج من المدينة، لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية في أرضها عام 1982، كانت تسيطر مع حلفائها على أجزاء من لبنان تستعملها في عمليات قصف ومحاولات تسلل نحو الأرض المحتلة في فلسطين، وهي عبر ذلك كانت تحاول الحصول على اعتراف من العالم بقضيتها، لكن كل شيء انتهى بعد ثلاثة أشهر من الحرب والحصار، وتم تدمير لبنان وخرجت منظمة التحرير منه، ليس إلى فلسطين، وإنما إلى الجهات الأبعد في العالم العربي، إلى تونس واليمن وبقاع أخرى.
اليوم تبدو غزة مهددة بمصير مماثل، وهي الأرض الفلسطينية التي تحررت في 2005 ويسيطر عليها تنظيم خارج أطر السلطة الوطنية الفلسطينية، وخرج التنظيم في “غزوة” داخل الدولة التي تحاصره، فاجتمعت القوى الكبرى على دعم إسرائيل في حربها على القطاع وسكانه، فيما تلوح في الأفق مشاريع تهجير سكاني ضخم هو أقرب إلى نكبة ثانية بعد النكبة الأولى عام 1948.
كيف وصل الأمر بسرعة إلى المأساة الراهنة وما كانت خطة حركة “حماس” لدى تنظيمها الاجتياح الناجح لمستوطنات ضواحي غزة والمواقع العسكرية فيها؟ هل كانت تفكر في مواصلة التقدم لربط القطاع بالضفة أم ذهب بها التخطيط بعيداً نحو برنامجها الأصلي في تحرير فلسطين من النهر إلى البحر؟
نجحت “حماس” عسكرياً في ضربتها الأولى التي أثارت إعجاب جمهور متعاطف مع الشعب الفلسطيني، وكشف هجومها عن هشاشة الاستخبارات وأجهزة الأمن والدفاع الإسرائيلية، وأسفرت المفاجأة عن مقتل مئات الإسرائيليين بمن فيهم ضباط كبار في الفرقة العسكرية المتمركزة على حدود القطاع.
السؤال الذي طرح فور انتهاء ساعات “الغزوة” الأولى كان عن اليوم التالي، هل لدى “حماس” ومحور “الممانعة” الذي تفاخرت بالانتماء إليه بقيادة إيران، خطة شاملة كان هجوم “طوفان الأقصى” رأس حربتها؟
من الطبيعي أن تتجه الأنظار إلى المحور المذكور ومشاريعه أمام عملية بهذه الضخامة والاتساع، فاجتماعات بيروت بين قادة “حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”حزب الله” بمشاركة ممثلي الحرس الثوري الإيراني ليست سراً، وخطابات هذه التنظيمات كانت دائماً تؤكد المعركة الفاصلة مع إسرائيل ووحدة هذه الأطراف في الساحة الواحدة ضدها، واجتهد المرشد الإيراني علي خامنئي مراراً متوقعاً نهاية قريبة لهذه الدولة لا تمتد لأكثر من عقدين.
عشية “الطوفان” كانت الأنظار كلها تتجه إلى الضفة، كل محور “الممانعة” يراقب ويتابع تصاعد الصدامات فيها على وقع عمليات الاستيطان واستشراس المستوطنين، وكان القادة الإيرانيون يفاخرون بـ”الأيادي الخفية” التي تدعم مقاتلي الضفة، وخامنئي يشيد بهم ويأمل في تحقيق النصر ثمناً لتضحياتهم، وبسبب ازدياد نشاط منظمة “الجهاد الإسلامي” القريبة لإيران في الضفة شنت إسرائيل ضدها حملة اعتقالات قاسية أعقبتها بحملة اغتيالات جوية في غزة من دون أن تحرك “حماس” ساكناً.
كان ذلك مدعاة اطمئنان لإسرائيل التي خرجت بتقييم مفاده بأن “حماس مرتدعة”، وفي المعسكر المقابل أثارت هجمات غزة ضد “الجهاد” تساؤلات عن حقيقة وفاعلية شعار وحدة الساحات، وهجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري الذي انفردت به “حماس” زاد في حدة التساؤلات، فالسؤال الأول كان، لو كان “محور الممانعة” يخطط فعلاً لمعركة حاسمة بهذا الحجم لكان عليه إطلاق عمليات متزامنة من غزة والضفة ولبنان، بل من سوريا والعراق وحيث لإيران حضور وتأثير عبر منظماتها، لكن ذلك لم يحصل، فـ”حزب الله” الركن الخارجي الأساسي الذي يعتمد عليه بين تلك التنظيمات، أفقده “الطوفان” عنصر المبادرة، هو الذي أمضى وقتاً طويلاً في الحديث عن خطط لاقتحام الجليل جاءت “حماس” لتنفذها بنفسها في غلاف غزة.
أكدت تطورات أسبوع “الطوفان” وحتى الآن في الأقل أن لا خطة موحدة لدى محور الممانعة، فصحيح أن ترحيباً ساد في إيران بما اعتبره قادتها رداً على محاولات اتفاقات السلام وحتى على مشاريع الممرات الاقتصادية كما قال مستشار المرشد علي أكبر ولايتي لوزير الخارجية السورية فيصل المقداد، لكن تصاعد الاتهامات ضد طهران ومسؤوليتها عن الهجوم والتحذيرات الأميركية لها من محاولات توسيع الصراع، جعلا خامنئي يسارع إلى نفي أي علاقة تنفيذية لنظامه بـ”الطوفان”، ليلتقي بذلك مع حرص الولايات المتحدة على تكرار عدم وجود أدلة على تورط إيران في عملية “حماس”.
كانت تلك صيغة ملائمة للطرفين لضبط الأمور ومنع الانفجار الشامل حتى الآن، وهي كما يبدو صيغة ستعود طويلاً، مما يساعد في إبقاء “حزب الله” منضبطاً ضمن “خطته” الخاصة كما قال نائب قائده الشيخ نعيم قاسم، أما الحوثي فيستمر في البحث عن طريق ووسائل نقل لم يجدها للوصول إلى فلسطين تنفيذاً لشعاراته المزمنة “الموت لأميركا” و”الموت لإسرائيل” و”الموت لليهود”، ولأن الأمور تقاس بخواتيمها ينبغي الإقرار بأن العملية التي شنتها “حماس” أسفرت عن إطلاق خطة جهنمية يقودها نتنياهو، مدعومة بأميركا وأوروبا وتفهم روسيا ودول العالم الأخرى، حدها الأدنى تصفية المقاومة في القطاع وتشريد أهله بعد تدمير حياتهم، وحدها الأقصى وضع مشاريع “ترانسفير” على جدول التنفيذ، الغزاويون إلى سيناء وأبناء الضفة لاحقاً إلى الأردن.
كانت أرقام القتلى الإسرائيليين في يومي “الغلاف” وقوداً في إثارة الداخل الإسرائيلي والرأي العام الدولي، فأرسلت أميركا قادتها وأساطيلها وفعلت بريطانيا مثلها ودخل الاتحاد الأوروبي في دعم إسرائيل ومعركتها الجديدة، وعندما وصلت إسرائيل إلى مرحلة إخلاء غزة من سكانها كان للرئيس الروسي شرط وحيد يدعم تل أبيب أكثر مما يعارضها، أن لا تعيد احتلال القطاع.
لم يتضح ما هي خطط الأطراف الغربيين عدا التضامن، الأعمى في غالب الأحيان، أميركا بوصفها الطرف الدولي الأكثر التصاقاً بإسرائيل لم ترسل بوارجها وجيوشها لخوض معركة مع إيران، لكنها أبلغت طهران رفضها أي مبادرة منها لتوسيع القتال.
في المقابل انخرطت إيران في نشاط دبلوماسي إقليمي وإسلامي لوقف الحرب على غزة مع تحذيرات من توسعها، وحاولت موازنة جولة وزير الخارجية الأميركية على عدد من دول المنطقة، بجولة مماثلة لحسين أمير عبداللهيان تحدث خلالها عن ضبط النفس والاهتمام بالشأن الإنساني.
في مقابل الجميع، وحده بنيامين نتنياهو نجح في ترميم صورته واستعادة لقبه كـ”ملك إسرائيل”، وأعاد توحيد القوى السياسية في حكومة حرب لا تهدد تنظيماً بعينه وإنما الشعب الفلسطيني بأسره، إذ كان نتنياهو قبل “الطوفان” منبوذاً من نصف شعبه ومن الإدارة الأميركية والرأي العام واليهود الأميركيين، وواجهته خلال زيارته الأميركية الأخيرة التظاهرات الاحتجاجية في كل مكان، وفي نيويورك لم يتمكن من الذهاب وزوجته للعشاء في مطعمه المفضل لأن المتظاهرين ضده سبقوه إليه.
خلال أيام قليلة انقلبت الصورة، انتهى مشروع “حماس الهجومي” ووضع نتنياهو وحكومته مشروعهما قيد التنفيذ، وبعد القصف التدميري المتواصل لغزة اتضحت الخطة الإسرائيلية، سيكون هناك تهجير جديد للشعب الفلسطيني لم يحصل مثله سوى في حرب 1948.
تقول صحيفة “معاريف” إن “النية هي تدمير معظم المنطقة المبنية في شمال قطاع غزة بالنار، من خط الشجاعية- نتساريم شمالاً، كل مدينة غزة وجباليا وبيت حانون وبيت لاهيا، تعتزم إسرائيل تفعيل قوى نارية لم يشهد لها مثيل، وعندما ستدخل القوات لن تكون تقريباً مبان على الأرض ولا مدنيون، فسيركز القتال على رجال “حماس” الذين سيتبقون في أنفاق غزة التحتية”.
بوضوح تام تمضي إسرائيل في خطة “ترانسفير” أثارت غضب المصريين، وهي تستند إلى حزام حماية غربي قوي وارتباك صريح في المحور الذي قرر العمل لإزالتها من الوجود، وإلى استثمار في تعاطف قد لا يستمر طويلاً، في هجوم “حماس” ونتائجه.
السؤال الذي يحتاج إلى أجوبة بعد أسبوع الموت والدمار هو، من خطط ولماذا حصل ما حصل منذ فجر السابع من أكتوبر؟
طرح الكاتب الروسي المقرب من السلطات ألكسندر نازاروف هذه الأسئلة وخلص إلى جواب مثير، قال الرجل إن “كل شيء في الوقت الراهن يتجه نحو حقيقة أن إسرائيل ستصبح المستفيد الرئيس”، فالكل، بحسب رأيه، يرتجل وهي صاحبة الخطة!