“انهيار” لبنان.. قرار سياسيّ! “احفظوا رؤوسكم”(2)
بديع يونس
في الجزء الأول، طرحنا السؤال عمّا إذا كان ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والمالية محض صدفة أم قراراً مدروساً؟ انطلاقاً مما شهده الدولار من ارتفاع غير مسبوق 10 آلاف ليرة، ثم انهيار بالـ10 نفسها.
كأنّ المُرتكب لوّح بما يمكن للوضع أن يصل إليه بقرار منه. هذه الرسالة فضحت الفاعل غير الآبه بصورته بعد اليوم رافعاً إصبعه: إمّا الـstatus quo وإمّا لقمة عيشكم!
حزب الله يعلم اليوم أنّ ما قبل الانتخابات ليس كما بعدها. لو عاد إليه القرار وسط المتغيّرات الدولية، لَما وافق على إجرائها. لكنّه كان مضطرّاً، نتيجةً الحرب الأوكرانية المفتوحة التي تهزّ الاستقرار الأمنيّ والعسكري والغذائي العالمي، وبالتوازي مع تجميد المفاوضات النووية في فيينا وترحيلها إلى ما بعد الانتخابات النصفيّة في الولايات المتحدة وما حمله هذا التجميد من بوادر تصعيد من اليمن مروراً بالعراق وسوريا وصولاً إلى فلسطين المحتلّة. ونظراً إلى كثرة الأزمات الضاربة في ليبيا والسودان وتونس، والمقلقة للغرب عامّة، وخاصّة لأوروبا الراغبة بالابتعاد عن احتمال حصول تدهور في لبنان، فَهِم الحزب إصرار الغرب على حصول الانتخابات بموعدها من دون تأخير.
الهزيمة الانتخابية
لذا مرّر الحزب الاستحقاق، وبنتيجته طارت رؤوس متحالفة معه ومحسوبة على سوريا ومحور الممانعة. فقد الأكثرية النيابية ولن تعوّض له ارتباطاته بإيران الأكثرية الشعبية. طوى لبنان مرحلة إجراء الانتخابات فيما يواجه حزب الله إحباطاً في بيئته بحيث لم يستطع أن يعكس عدد صواريخه، وزعمه بوجود مئة ألف مقاتل على رؤوس الجبال، وما استورده من نفط من إيران، وتوزيعه “لهدايا السيد”، وفتحه لمخازن المواد الغذائية أمام أنصاره، وتأمينه لبعض الأدوية… إلخ، لم يستطع بكلّ ذلك، مضافاً إلى المال السياسي والانتخابي والإعلاني والإعلامي والرواتب الشهرية، أن يترجم هذه القوة المفرطة في صناديق الانتخاب. تراجعت نسبة التصويت في بيئته من 49% في 2018 إلى 42% في 2022. ولعلّ المقاطعة في بيئة الحزب هي الشيء الوحيد المتوافر لدى هذه البيئة لتسجيل معارضتها له، حيث منع بكلّ الوسائل أن يكون هناك مرشّحون شيعة من غير ثوبه داخل قبّة البرلمان.
شاب هذا الاستحقاق الكثير من الممارسات “اللاديمقراطية” وعلى رأسها ممارسة العزلة أو الانكماش والمقاطعة، وفي حين سمحت الزعامات الطائفية التقليدية للمجتمع المدني بالعمل السياسي، وبمنازلة ديمقراطية أوصلت 13 نائباً من “الثوّار” ومثلهم من المستقلّين، ظلّت الساحة الشيعية مقفلة بالحديد والنار والترهيب والترغيب…
الحزب الله نفسه حاول أن يمدّ يده إلى بقيّة الطوائف ساعياً إلى صرف فائض قوته لدى السُنّة والعلويّين والدروز والمسيحيّين. لكنّه تراجه سنيّا وخسر درزياً وانهزم مسيحياً أمام تقدّم القوات اللبنانية والمجتمع المدني.
تفاقم الانهيار
استمرار الانهيارات الماليّة والنقدية والاقتصادية بوتيرة سريعة غير مسبوقة شملت جميع أبناء لبنان من دون استثناء، تزامن مع غياب كلّي، بعد الانتخابات، لمساعدات الحزب التي كثّفها قبلها كأداة للرشوة ولشراء الأصوات ولتنفيس الاحتقان المتعاظم، ولا سيّما في بيئته. إذ تشهد جميع مناطق لبنان من دون استثناء تعاظم الفقر المدقع المستشري وانهيارات معيشية لا سابق لها.
على مدار سنوات نجح الحزب في “سياسة التفتيت”، فهل يستكملها اليوم بـ”سياسة التشتيت” مستخدماً سلاح الاقتصاد بوجه نتائج الانتخابات؟
بدأ الأمين العام للحزب خطبته بدقّ إسفيناً بين “التغييريين” و”السياديين”. رمى بينهما صراع الأولويّات، حين دعا إلى “تأجيل بحث موضوع السلاح لسنتين ريثما يتمّ حلّ المسائل الحياتية والاقتصادية”. خاطب التغييريين بلغة الشعارات لينقلبوا على “السياديين”. ولتركيز دعوته أكثر، تلاعب بين ليلة وأخرى بالدولار ليركّز فكرته في عقول “التغييريين”.
فيما فصّلنا بإسهاب في الجزء الأول أهمية السيادة بالاقتصاد كما بالدفاع، يبقى أنّ التحرّر الوطني المنشود يكون باسترجاع كلّ القرارات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ووضعها بيد سلطة الدولة المركزية، وتعزيز هذه السلطة التنفيذية بشرفاء لا همّ لديهم إلا إخراج لبنان “من جهنّم”، ولا يؤرقهم سوى أنين المواطن اللبناني. فلا اقتصاد ولا مخرج من الأزمات المتناسلة المتفاقمة من دون استعادة قرار الحرب ووضعه بيد اللبنانيين بدلاً من تحكّم فئة، تطيع نظام طهران، بمصير كلّ لبنان. فلا تناقض بين استعادة السيادة الوطنية وبناء الاقتصاد الوطني، فالاثنان لا يتناقضان بل يتكاملان.
يحقّ لكلّ نائب تغييري أن يفكّر بالأولويّات التي يرتئيها، غير أنّه موكل إليه من الشعب اللبناني الاضطلاع بحمل هموم الناس والتفتيش عمّا يخدم البلد من أقصاه إلى أقصاه. وإذا دحرجت نتائج الانتخابات الأخيرة رؤوساً كبيرة، فإنّ الاستحقاقات المقبلة ستُظهر، بقوّة الصوت الناخب، مَن يستحقّ البقاء ومَن عليه الرحيل.
ولاية السنوات الأربع ليست إلا برهة قصيرة في عمر الشعوب. لذا حفظ الرؤوس يقرّره مدى الابتعاد عن الموقف اللفظي والاقتراب من مفهوم السيادة الحقيقي.
نقلاً عن “أساس ميديا”