الخداع والحقيقة في الانتخابات اللبنانية
طوني فرنسيس
معارضو “حزب الله” موزعون في مواجهة لوائح توحدت برعاية المرشد
يخوض أطراف الانتخابات النيابية في لبنان، في 15 مايو (أيار) المقبل، تحت عنوانين رئيسين. حماية “المقاومة” هو الشعار الذي يرفعه “حزب الله” ويبني تحالفاته على أساسه، ومنع “الدويلة” من ابتلاع الدولة شعار خصوم الحزب المذكور وغالبيتهم شاركته السلطة في مجلسي النواب والوزراء على مدى ربع قرن. وإلى الطرفين المذكورين، ينتظم معارضون في لوائح مشتركة مرتكزين على التحركات الشعبية التي انطلقت في خريف 2019 ليجعلوا إصلاح النظام الاقتصادي والاجتماعي واسترداد حقوق المواطنين، دافعاً لانخراطهم في العملية الانتخابية.
في المبدأ، يخوض هؤلاء معركة ضد الطرفين الآنفين، مستلهمين شعار “انتفاضة تشرين 2019” الشهير “كلهم يعني كلهم” إلى حد الوقوع في أسره. ما يُقلص حظوظهم في الوصول إلى عضوية مجلس النواب، ويتسبب بترجيح حظوظ تحالفات “حزب الله” على حساب معارضيه، خصوصاً في المناطق الطائفية المشتركة، أو ذات الأغلبية من طوائف غير الطائفة الشيعية، حيث أي لائحة تقوم في تلك الأخيرة تُعتبر إنجازاً وخرقاً، بسبب هيمنة الحزب المذكور بأسلحته المتنوعة، الدينية والحربية، مدعومة بالمال الإيراني ووحدة العقيدة والمرشد، على قطاع واسع من المواطنين الشيعة ومصائرهم.
لكن التوصيف العام لأطراف المُنازلة لا يُعفي من التدقيق الكاشف. فـ”حزب الله” الذي يعتبر الانتخابات “حرب 2006” أخرى تُشن ضده بوصفه مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، يفتقر منذ سنوات طويلة إلى مبررات الاستمرار كمقاومة، وتحديداً منذ الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في عام 2000. كان ذلك الانسحاب مفاجئاً في حينه للنظام السوري وللسلطات اللبنانية وللحزب نفسه، ما اقتضى إعادة إدراج مزارع شبعا وكفر شوبا في نطاق الأرض اللبنانية الباقية تحت الاحتلال كمبرر لاستمرار الحزب المسلح. صحيحٌ أن المزارع محتلة وأنها أراضٍ يملكها لبنانيون، لكن السيادة عليها تعود إلى سوريا، وقد جرى احتلالها في حرب 1967 بوصفها جزءاً من الجولان المحتل، واعترف الرئيس السوري بشار الأسد بهذا الواقع في أحاديثه مع المفاوضين الأميركيين على ما كشف فردريك هوف في كتابه الأخير.
لا أساس لخطاب تحرير الأرض المتبقية تحت الاحتلال كما فرضه السوريون ثم “حزب الله” على برامج الحكومات اللبنانية المتعاقبة. وفي الواقع، لم تجرِ أي محاولة لاستعادتها، بل بقيت حقل مناورات محدودة في مناسبات معينة لاستعراض القوى منعاً لاحتمالات خرق القرار الدولي 1701 الذي اتخذه مجلس الأمن الدولي في أعقاب حرب يوليو (تموز) 2006.
طوال السنوات الممتدة منذ ذلك التاريخ، بات “حزب الله” عنصراً أساسياً في أممية “شيعية “مسلحة. لم تعد مقاومته فاعلة سوى في الداخل اللبناني وعلى امتداد مناطق التدخل الإيراني. بات مقاتلاً في سوريا والعراق واليمن وحاضراً بحسب مقتضيات المشروع الإيراني في أماكن شتى، وصولاً إلى تبني رؤية الشيخ الزكزوكي في نيجيريا.
يتراجع عامل مقاومة الاحتلال لصالح حضور من نوع آخر يقتضي تعزيزاً للموقع في مواصفات يفرضها الدور “الأممي المذهبي”، فلا تعود مقاومة الاحتلال جذراً رئيساً بل لباس لم يعد متناسقاً مع جسم يتخذ أبعاداً جديدة لكنه يحتاج إلى موطئ قدم صلب هو لبنان.
ويعرف اللبنانيون والمهتمون بالشأن اللبناني هذه الوقائع، وهم للمرة الأولى يلحظون سعي “حزب الله” إلى الفوز بأكثرية نيابية، ليس لحماية “المقاومة” فحسب، بل لوضع اليد شرعياً، وعبر الانتخابات، على السلطة بأكملها. ففوزه بالأغلبية يعني أنه سيتمكن من تحديد شخصية رئيس الجمهورية وشخصية رئيس الحكومة، ثم تعيين رؤساء المؤسسات الأساسية، من قائد الجيش إلى قادة الأجهزة الأمنية وحاكم البنك المركزي. وإذا ما حصل ذلك، فالباب سيكون مفتوحاً أمام تشريعات قد تصل إلى إجراء تعديلات في الدستور وسن قوانين جديدة تؤثر في الطابع التعددي للمجتمع اللبناني وأنماط عيشه.
سعياً للوصول إلى هذه الأهداف نسج الحزب تحالفاته الانتخابية ببراعة. استفاد من انسحاب سعد الحريري وتياره ليدعم لوائح في الوسط السني. وجمع حلفاءه المسيحيين إلى إفطار رمضاني، وضغط لتمتين لوائحهم ومدها بأصوات يتم تحريكها بقرارات مركزية وبتحالفات جمعت خصوماً في ماركات مسجلة. باختصار، فعل الحزب الذي ينتمي عقائدياً إلى إيران كل ما يلزم لخوض معركتها في “ساحة لبنان”، شعاره المقاومة وهدفه الدولة والبلد.
اتساع مؤشرات خضوع القضاء اللبناني للتيارات النافذة
في مواقفهم وخطاباتهم، يقول خصوم “حزب الله” إن معركتهم هدفها منعه من وضع يده على الدولة. شعار يكاد يوحد جميع القوى الممثلة حالياً في المجلس النيابي والسلطة السياسية، لكن فيما يتوارى الحزب وراء شعار مخادع لينظم معركة جدية، رفعت تلك القوى المعترضة شعاراً ملموساً ودقيقاً وجامعاً لكنها لم تبْنِ جبهة موحدة تخوض باسمها الانتخابات. فإذا كان لشعار منع الدويلة من ابتلاع الدولة ما يبرره ويتمسك به حاملوه فعلاً وقولاً، فقد كان الأجدى أن يتحركوا لنسج تحالفات ولوائح موحدة على مستوى الدوائر الانتخابية كلها.
لم يحصل ذلك لأسباب عدة أحدها انسحاب الحريري من العمل السياسي. إلا أن هذا ليس السبب الوحيد. لقد تغلب منطق تكبير الحجم الحزبي الخاص على منطق تكبير الكتلة النيابية التي ستخوض معركة استرداد الدولة. والأجدى كان تقديم التنازلات الفئوية لصالح ضمان الفوز بأكبر عدد من المقاعد النيابية لمن يتبنون برنامج بناء دولة المؤسسات والقانون، والسعي لإصلاح النظام وتطويره وتثبيت انتماء لبنان إلى عمقه العربي.
كان يمكن السعي إلى جبهة انتخابات واسعة تضم الإصلاحيين من المنتمين إلى روحية “انتفاضة تشرين” إلى جانب قوى الاعتراض التقليدية. فهؤلاء يعرفون أن الإصلاح مستحيل في وجود دولة داخل الدولة تقيم ركائز سطوتها على تحالف الفساد والميليشيات. والجميع، في المناسبة، يتذكر أن ما من تغيير حصل في تاريخ لبنان من دون التقاء قوى تغييرية وتقليدية في جبهة واحدة. حصل ذلك في معركة الاستقلال، ثم في تجربة “الجبهة الوطنية الاشتراكية” ضد مشروع التمديد لبشارة الخوري الرئيس الاستقلالي الأول، وفي زمن الحرب كانت الائتلافات الواسعة سبباً في قيام توازنات داخلية في انتظار حلول تأخرت، إلا أنها حضرت أخيراً في اتفاق الطائف.
في لبنان اليوم معركة انتخابية بين عنوانين، الأول مخادع بأدوات انتخابية فاعلة، والثاني حقيقي بأدوات يشوبها التفكك. والعامل الحاسم سيكون مدى إقبال الناخبين على الإدلاء بأصواتهم الثمينة جداً في لحظة لبنانية تاريخية.
نقلا عن اندبندنت عربية