الحوثي بين رغبات التغيير الثقافي و”التجهيل”
صالح البيضاني
وصل اليمن إلى حالة معقولة من السلم الاجتماعي منذ انتهاء الحرب الأهلية في السبعينات بين الجمهوريين والملكيين، وحتى منتصف التسعينات من القرن الماضي، غير أن هذا السلم الذي كان يطفو على السطح ويغمر عقول وقلوب بسطاء اليمنيين، كان يخفي تحته الكثير من النيران المشتعلة في صدور من يعتقدون أنهم خسروا حقهم الإلهي بفعل فكرة المساواة وإزالة الفوارق بين الطبقات، التي أتى بها النظام الجمهوري القائم على أنقاض دولة الإمامة الهادوية في شمال اليمن.
استطاع الجمهوريون أن يبعثروا إرث ألف عام من قواعد الحكم والتراث الأيديولوجي السلالي، الذي حكم مناطق متفرقة في شمال اليمن لفترات متقطعة، وهي القواعد التي عملت الدول الإمامية المتعاقبة على تكريسها، كلما سنحت لها الفرصة للتوسع بطريقة أقرب ما تكون للانتهازية، التي تتسم بها بعض الأمراض التي لا تشق طريقها للانتشار إلا في لحظات الضعف وانهيار المناعة التي تعتري الجسم البشري.
كانت دول الإمامة في أقصى شمال اليمن تتقوقع على ذاتها في مناطق تواجدها التاريخية التي شهدت ولادتها الأولى، لتسري في جسد الجغرافيا اليمنية عندما يصيبه الهزال والضعف، وتتراجع مجددا إلى تلك الرقعة الضيقة عندما يتعافى البدن اليمني، وتجري في عروقه روح القومية وجينات التمرد الرافضة للخضوع لفكرة الأفضلية العرقية، التي كانت ولا تزال جوهر العقيدة الإمامية التي يمثلها الحوثيون اليوم في طورها الجديد.
الحوثيون يعتقدون أن كل أنظمة وأجهزة النظام السابق الثقافية والتعليمية، أدوات فاسدة لا يمكن إصلاحها.. لذلك عمدوا وبطريقة يغلب عليها التعجل والفظاظة إلى إفراغ وتدمير تلك المؤسسات التعليمية
عندما اجتاح الحوثيون العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014، كما فعل أسلافهم لعشرات المرات في تاريخ اليمن، كان السبب ذاته تقريبا هو الذي أتاح لهم فرصة الانقضاض على مركز الدولة اليمنية، والتهام ما تبقى من إرث ثورة 26 سبتمبر 1962 التي كانت تترنح في تلك المرحلة، ولم يتبق منها سوى الكثير من الشعارات والقليل من المؤمنين بقدسية تلك الثورة، التي أخرجت اليمنيين من الكهف الفكري المظلم الذي تقبع فيه فكرة الأفضلية السلالية والتفوق العرقي.
ينطلق الحوثيون اليوم في الكثير من توجهاتهم السياسية من دوافع أيديولوجية وثقافية، تستمد روحها من نزعة الانتقام التاريخي والهوس العقائدي الذي بات يفسر الكثير من قراراتهم الثيوقراطية، التي تهدف إلى إعادة تشكيل المجتمع اليمني وفق قالب أيديولوجي جاهز، ينسجم مع رغبة الجماعة في الثأر للتاريخ والتحكم في مسار المستقبل، بطريقة تتشابه إلى حد كبير من حيث أدواتها وطبيعة العنف التي تميزها مع محاكم التفتيش الإسبانية التي محت 781 سنة من الإرث الإسلامي في الأندلس.
أبدى الحوثيون تشددا أكبر في مسيرة العنف التي عبروها، مع التغيرات الثقافية والمذهبية التي صنعتها ثورة 1962، فيما يعتقدون أنها مناطق سيطرتهم التاريخية التقليدية في شمال اليمن، وهذا ما يفسر موقفهم المبكر قبل اجتياح صنعاء من مركز “دماج” السلفي في صعدة الذي عمدوا إلى استهدافه كأولوية عسكرية، وأجبروا الدارسين فيه مطلع العام 2014 على النزوح ومن ثم إغلاق المركز الديني الذي طالما نظروا إليه باعتباره شوكة في خاصرتهم التاريخية والثقافية.
قبل إجلاء السلفيين من صعدة، قام الحوثيون بعمليات تهجير ممنهجة طالت آخر تواجد لليهود اليمنيين في المحافظة، ثم وسعوا بشكل تدريجي من دائرة الإلغاء السياسي والمذهبي، ليشمل ذلك جغرافيا واسعة في أقصى الشمال، مثل عمران وحجة والجوف وصنعاء، وتم في تلك المرحلة استخدام أسلوب “الصدمة” كسياسة ممنهجة للتعبير عن العنف المفرط بحق الخصوم، من قبيل تفجير منازلهم ومراكزهم الثقافية والدينية وحتى مساجدهم وبث ذلك بشكل متعمد على وسائل ومنصات الإعلام.
في خطابهم السياسي والإعلامي لتبرير حربهم ضد الآخر، استدعى الحوثيون كل عقد الصراعات التاريخية، ومضوا قدما في تنفيذ مخططهم الكلاسيكي الذي يهدف إلى اجتثاث الأفكار العالقة في العقول عبر برنامج مكثف لغسل الأدمغة والإحلال الثقافي والمذهبي، متخطين كل العوائق التي كانوا يرون أنها تعترض طريق مشروعهم، وفي مقدمة ذلك برامج وأدوات التعليم الحكومي التقليدية التي ورثوها عن الدولة اليمنية بعد سقوطها في انقلاب سبتمبر 2014.
في خطابهم السياسي والإعلامي لتبرير حربهم ضد الآخر، استدعى الحوثيون كل عقد الصراعات التاريخية، ومضوا قدما في تنفيذ مخططهم الكلاسيكي الذي يهدف إلى غسل الأدمغة
يعتقد الحوثيون أن كل أنظمة وأجهزة النظام السابق الثقافية والتعليمية، أدوات فاسدة لا يمكن إصلاحها من وجهة نظرهم لخدمة توجهاتهم الجديدة، لذلك عمدوا وبطريقة يغلب عليها التعجل والفظاظة في الكثير من الأحيان إلى إفراغ وتدمير تلك المؤسسات التعليمية، واستحداث برامج تعليم موازية قائمة على فكرة الشحن الطائفي والتجييش الأيديولوجي المباشر، حيث لم تكن البيئة التعليمية التقليدية في نظرهم بيئة مناسبة لتسريع التحول الثقافي والفكري الذي يهدفون إلى تحقيقه، على الرغم مما طال هياكل المنظومة التعليمية والثقافية السابقة من تغيير بعد إغراقها بعناصر وأدوات وأفكار تنتمي إلى أيديولوجيا الجماعة، وهو المشروع الذي يشرف عليه الشقيق الأكبر لزعيم الجماعة الحوثية والذي يتولى بنفسه قيادة وزارة التربية والتعليم في الحكومة الانقلابية، يحيى بدرالدين الحوثي.
وفي لمحة سوداوية عما آل إليه حال التعليم في اليمن في ظل هذا التدمير الممنهج، تقول الأخبار القادمة من مناطق سيطرة الحوثي اليوم إن المدارس باتت خاوية على مقاعدها الفارغة، بعد أن أوقفت الميليشيا مرتبات المعلمين، وفرضت الرسوم الباهظة على الطلاب في المدارس الحكومية، كما تم تحويل الكثير من المدارس الحكومية إلى معسكرات صيفية لتدريب الأطفال على حمل السلاح والكراهية، أما الجامعات فحالها أسوأ من ذلك مع فرض نمط طائفي وتمكين العناصر الميليشياوية من إدارة تلك الجامعات، بالتوازي مع حملات لإغلاق معاهد تعليم اللغة الإنجليزية، وتشجيع تعلم اللغة الفارسية في ذات الوقت، والتحريض على منع الطالبات من الالتحاق بالمدارس والجامعات.
لم يستطع الحوثيون قطع شوط كبير في مشروعهم الذي يسابق الريح ويخصصون له قدرا كبيرا من إمكانيات الدولة المنهوبة، ولذلك الفشل سبب بسيط ومباشر وجوهري باعتقادي وهو أن الحوثيين يعملون على إحداث تغيير عميق وجذري في فكر وثقافة وعقيدة المجتمع اليمني، ولكن ذلك وإن تم وفق ما يعتبرونه “حربا ثقافية” مفتوحة يخوضونها من أجل هذا التغيير، إلا أن ما يعترض طريق هذا المشروع هو رغبة جارفة أخرى تقود قراراتهم وتسبق حتى حربهم الثقافية بخطوات، وتتمثل في رغبتهم الجارفة في إنتاج جيل جديد من اليمنيين من غير المتعلمين الذين يسهل تحويلهم إلى وقود للمعارك والحروب والصراعات الداخلية والخارجية، وهو ما يجعل من هذا الجيل الذي يطمح الحوثي إلى صنعه والمجرد من أبسط أدوات العلم وبالتالي من الأيديولوجيا، جيلا عابرا في مسار التاريخ، يسهل طمس آثاره عند أول منعطف حقيقي أو ثورة شعبية يشعلها الباحثون بالفطرة عن الخبز وقليل