الحجاب.. والدرس الإيرانى
ياسر عبد العزيز
لا تتوقف إيران عن منح العالم الدروس المثيرة؛ وفى مجالات عديدة تظل الخصوصية الإيرانية لافتة، بحيث تبقى قادرة على إثارة الدهشة، في ظل سيل لا ينقطع من المتناقضات وغرائب السياسات.
وفى هذه الآونة بالذات، تعرف إيران قدرًا كبيرًا من التحديات الجسام؛ وبعضها يطال محددات ثبات الدولة واستدامة النظام، وبعضها الآخر يتعلق بالبرنامج النووى الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس، ويستهلك قدرًا كبيرًا من طاقة دول العالم الكبرى وتركيزها، فضلًا بالطبع عن مشكلة الفقر وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، والأزمة الاقتصادية المتصاعدة.
ومع ذلك، فإن المعركة الأكثر سخونة في الواقع الإيرانى راهنًا تتعلق بزى المرأة، وما إذا كانت ترتدى حجابًا «شرعيًا جيدًا»، أم ترتدى حجابًا «سيئًا»، وبسبب تلك المعركة تنشغل كبريات وسائل الإعلام الدولية بتغطيات وافية لاحتجاجات متضاربة تشهدها مدن إيرانية، وتشتعل المعارك على وسائل «التواصل الاجتماعى» وتنطلق «الهاشتاجات» المؤيدة للحجاب والداعية لخلعه، وتصدر الدولة القوانين، بغرض تحديد المساحات التي يجب حجبها في شعر المرأة الإيرانية.
لم تفلح الضغوط الاقتصادية والسياسية العارمة التي تواجهها إيران في وضع معركة الحجاب على شعلة الموقد الخلفية، أو تأجيل الحديث فيها لحين معالجة الأزمات الحادة التي خلفتها المعارك الروسية في أوكرانيا أو تداعيات «كورونا». كما لم تنجح التهديدات المتواصلة بتشديد العقوبات على طهران، أو الأنباء المتواترة عن تشكيل حلف إقليمى يكون هدفه ردعها أو حتى مهاجمتها- في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق نووى متوازن- في كبح هذا الاهتمام الكبير والمتنامى بما يتوجب أن ترتديه المرأة عندما تخرج إلى المجال العام.
وحتى التطورات العلمية الكونية التي صنعتها صور تليسكوب «جيمس ويب» لم تكن قادرة على صرف انتباه الحكومة الإيرانية عن ضرورة الاحتفال بـ «اليوم الوطنى للحجاب والعفة»، أو على حملها على تركيز اهتمامها بعيدًا عن تلك القضية التي كانت هاجسًا سياسيًا والتزامًا حكوميًا منذ صدر قانون إلزامية الحجاب لأول مرة في العام 1983.
لذلك، فقد ظهرت الاستجابات السياسية الحكومية سريعًا، حينما وافق البرلمان أخيرًا على قانون بإلزامية الحجاب «الجيد»، ليقر عقوبة السجن على المرأة التي تخرج إلى الشارع من دون الحجاب «الشرعى»، ويمنع دخولها المؤسسات العامة، والمصارف، والجامعات، ووسائل النقل العمومية.
وعلى مدى الأسابيع الفائتة لم تهدأ الاحتجاجات المناصرة لحقوق النساء في إيران، بعدما اتضح أن أغلبية من الشعب الإيرانى باتت معترضة على القوانين والممارسات التي تستهدف الحد من حرية الملبس.
ظل «التشادور» النسائى التقليدى مرادفًا شكليًا للنسق السياسى الذي اعتمدته الثورة الإيرانية منذ وصلت إلى السلطة، في العام 1979، لكن هذا الزى المميز، ذا الدلالة السياسية التي لا تخفى على أحد، لم يعد مقبولًا من أكثرية الشعب الإيرانى كما يبدو.
ورغم تحذير مراكز بحوث إيرانية معتبرة من اتساع نطاق الاحتجاجات الرافضة لسياسات فرض نمط محدد للحجاب قسرًا، فإن الحكومة والبرلمان وجدا أنه من المناسب أن يتم تشديد الإجراءات الرامية إلى الإلزام بزى معين تراه المؤسسات العامة ضروريًا.
بسبب التغيرات المتسارعة في المجال الاتصالى، زاد اتصال الشباب والمرأة في منطقة الشرق الأوسط عمومًا، وفى إيران خصوصًا، بالأفكار وأنماط العيش والقيم العالمية، عبر التعرض لمضامين إعلامية وفكرية وثقافية ذات طابع عالمى.
وباتت قطاعات الشباب، التي تشكل الغالبية العظمى من سكان المنطقة، أكثر قدرة على فهم الأنساق الاجتماعية الأكثر حداثة، وأكثر رغبة في مقاربتها في مجتمعاتها.
وبسبب قدرة القطاعات الأصغر سنًا على التواصل والتأثير، راح المجتمع يصوغ مطالبه الجديدة، ويسندها بالحجج والذرائع، ويتواصل من أجل تفعيلها.
لكن الحكومة والمؤسسات التقليدية في إيران تجد ضرورة في مواجهة هذا النزوع وتأجيج الصدام معه؛ لأن ذلك يعزز وجودها أو يسوغه، أو يصرف أنظار الناس عن القضايا الجادة والأولويات الحقيقية، أو يكسب تعاطف وتأييد قطاع من الجمهور المحافظ، أو يعزز الضغوط على المعارضة المدنية.
نقلا عن “المصري اليوم”