عودة البعث على يد المالكي.. الصفقة المستحيلة
ماجد السامرائي
ليس غريباً الاهتمام الذي حظيت به الزيارة الأخيرة لمحمد رشاد الشيخ راضي مسؤول قيادة حزب البعث الجناح السوري إلى بغداد في مواقع التواصل الاجتماعي العراقية، ولقاءاته المسؤولين العراقيين أعداء البعث وخصومه مثل نوري المالكي، كذلك رئيس الجمهورية وعادل عبدالمهدي. يبدو أن تسريبات السيناريوهات التي ترتبط بمستقبل الوضع السياسي العراقي والتطورات المحتملة في المنطقة، هي واحدة من أسباب الاهتمام بهذا الملف.
هذه السيناريوهات المتوقعة حول العراق تؤكدها تصريحات قادة سياسيين وعسكريين أميركيين، بعضها ينتقد ترك العراق لإيران والبعض الآخر يتضمن مقترحات للإدارات الأميركية خاصة إدارة جو بايدن الحالية، بضرورة معاودة تنظيم الوجود الأميركي في العراق وإنهاء حالة ملء الفراغ الإيرانية.
يلوم الجنرال ديفيد بترايوس صاحب مشروع “الصحوات” بالعراق في مداخلة أخيرة له قبل أيام بمعهد واشنطن الأميركي وقوع الإدارات الأميركية “بأكبر خطأين: تفكيك الجيش وعملية اجتثاث حزب البعث. ومع ذلك تبقى من المصلحة القومية للولايات المتحدة الحفاظ على وجودها العسكري هناك ومواصلة انخراطها في البلاد”. ويعترف بأن سبب نجاح تجربة “الصحوة” أنها ركزت على المصالحة مع البعثيين السابقين والسُّنة والشيعة على حدٍّ سواء. بترايوس يعلم أن حل الجيش وقانون الاجتثاث قراران اتخذهما سيده في تلك الأيام الحاكم المدني بول بريمر بتوجيه من الرئيس بوش.
زيارة محمد رشاد إلى بغداد قبل أسبوعين ليست الأولى، سبقتها زيارات سرّية وعلنية أهمها الزيارة المماثلة في أهدافها عام 2009 حين كان نوري المالكي رئيساً للوزراء، وقتها دعا في وسائل الإعلام المعارضين للحكم إلى الحضور إلى بغداد والحوار مع قادة الحكم الشيعي. كانت إعلانات الشيخ راضي للأهداف المرتجاة في ذلك العام متطابقة للزيارة الأخيرة، وما أعقبها الآن من تباعد في المواقف مع نوري المالكي تؤكد تداعيات خصومة سياسية غير معروفة أسبابها الحقيقية.
يبقى اسم محمد رشاد الشيخ راضي كأحد البعثيين ذوي الميول الطائفية الذين انشقوا على الحزب واختاروا نظام الأسد الأب والابن كمصدر للولاء السياسي باسم البعث، أقام مع زميله محمود شمسة في لندن، وهما صديقان مقربان من النظام السياسي الشيعي في العراق؛ شمسة أصبح وما زال يتمتع بوظيفة مستشار لدى رئيس جمهورية العراق، في مفارقة فكرية وسياسية لا تشبهها سوى المفارقة التاريخية للتحالف الإستراتيجي بين رئيس النظام السوري الراحل حافظ الأسد ثم ابنه بشار ونظام خميني – خامنئي الرافع لشعارات الإسلام الشيعي الفارسي خصم حزب البعث العربي الاشتراكي كفكر وأيديولوجيا عربية، قبل أن يكون نظاماً سياسياً في العراق قبل 2003 لكنه متحالف مع نظام بشار السوري الحاكم بغطاء بعثي.
العداء الفارسي الجنوني ضد بعث العراق وصل درجة الإصرار على تغيير نظامه السياسي قبل أن تخدمه أميركا بتنفيذ تلك الرغبة بالاحتلال العسكري وتنفيذ قانون الاجتثاث، إلى جانب مشروع القتل الممنهج حيث وصلت الأرقام إلى 250 ألف بعثي وحرمان الآخرين من حقوق مواطنتهم في التملك والحرية.
صدرت عن نوري المالكي تصريحات تعبّر عن حقيقة موقفه من البعث في بيان صحفي بتاريخ 31 مارس الماضي، حيث أتّهم عقيدة البعث الفكرية بأنها “تعتمد على استئصال الآخر المختلف فكرياً وسياسياً وثقافياً، وستظل خطورة هذه العقيدة كامنة وتتحيّن الفرص للانقضاض على مسيرة التغيير في العراق، إن عودة البعث فكراً وسلوكاً وأفراداً تحت أيّ مسمى وواجهة سوف لن تحصل أبداً، هي جريمة يحاسب عليها القانون. سنبقى متمسكين بكل القرارات التي صدرت بعد العام 2003، والتي تقضي باجتثاث البعث وفكره وبتجريمه”.
المالكي مُحق في عدائه للبعثيين وقادتهم في النظام السابق. لأن نظام صدام وبعثه حسب التعبير الدستوري الصادر عام 2005 قد سبق أن اجتث حزب الدعوة تحت مبررات وقوفه إلى جانب طهران في حربها ضد العراق (1980 – 1988). نفّذ المالكي بمبالغة متطرفة آليات قانون اجتثاث البعث منذ أن كان عامي 2003 – 2004 نائباً لرئيس هيئة اجتثاث البعث أحمد الجلبي، بل أصبح المالكي هو الرئيس التنفيذي الفعلي بيده مصائر المواطنين دون أيّ جرائم اقترفوها سوى أنهم بعثيون، أليس حزب الدعوة من أعاد نظرية استئصال الآخر بشكل ثأري مبالغ فيه، فلماذا يغالط ويخدع و”يَبلِف” القادة البعثيين الجناح السوري ويدعوهم للحضور إلى بغداد ثم ينقلب عليهم.
يعلم المالكي أن ملف الحوار مع البعثيين التابعين للنظام السوري يندرج تحت عنوان “البعث” وهو ملف خطير لا يستطيع مهما تفنن في مناوراته التحرش به أمام زملائه المعممين والمتطرفين من الشيعة الحكام وميليشيات أحزابهم وجمهور بعض فصائلهم المُغّفل. قبل أيام ذكّره واحد من هؤلاء على مواقع التواصل الاجتماعي بقول محمد باقر الحكيم “لو كان إصبعي بعثياً لقطعته”.
واحدة من أساليب المخادعة للمالكي خطابه الذي وجهه بتاريخ 10 – 3 – 2009 إلى البعثيين أثناء موجة “المصالحة” المخادعة قوله “لماذا تذهبون بعيدا للتحدث عن الحكومة، تعالوا هنا وتحدثوا فهناك أحزاب تعارض وتنتقد الحكومة ورئيس الجمهورية”. لكنه بذات الوقت تحدث عن أن المصالحة ليست مفتوحة ولا تعني العودة إلى الماضي “هي ليست مفتوحة لمن أجرموا بحق المواطنين”. وأصدر حزب البعث قيادة العراق بياناً رفض فيه تلك الدعوة ووصفها بدعوة “المصالحة المخادعة”.
المغالطة والمخادعة المسوّقة حصلت خلال فترة رئاسة المالكي 2006 – 2014 باسم “المصالحة” حيث شُكلّت في حينه وزارة باسم “الحوار الوطني” أدارها أكرم الحكيم (2006 – 2010) قامت بعقد لقاءات مع بعثيين ومسؤولين عسكريين ومدنيين في عمّان الأردن، لكنها كانت مجرّد لقاءات واجتماعات صرفت تحت عنوانها الملايين من الدولارات في ميزانية وزارة المصالحة المزعومة تحت عنوان “دعم العملية السياسية” كانت دعوة محمد رشاد الشيخ راضي لزيارة بغداد عام 2009 تحت ذات العنوان الفضفاض.
سبق لعمار الحكيم عام 2017 أن دعا لما أسماه “المصالحة التاريخية” وزار خلالها عمان والقاهرة تحت هذا العنوان الاستهلاكي الذي اندثر.
القيادات الشيعية الحاكمة لا تؤمن ولا تسمح بعودة البعثيين كتنظيم وتحت أيّ عنوان، نوري المالكي انفرد منذ أن كان رئيساً للوزراء وحتى اليوم في التعاطي مع هذا الملف. من الصعب شطب النتائج الكارثية في مسؤوليته المباشرة من خلال الاجتثاث في قتل وتغييب عشرات الآلاف من العراقيين.
اعتقد المالكي أنه من خلال التعاطي في هذا الملف بأساليب المناورة مع الأميركان خاصة، واحتمالات الصمت المؤقت للنظام الإيراني قادر على الإيحاء بالتجاوب مع فكرة دخول البعثيين في العملية السياسية كواحد من أهم شروط خروج العراق من أزمته الطاحنة ودمجه في سيناريو التغيير المقبل بالمنطقة الذي بات قريباً.
بماذا كان المالكي يفكّر وهو يخطط لدمج تنظيم البعث – الجناح السوري في العملية السياسية؟ لماذا غيّر قناعاته اليوم في التخلي عنه؟ هل اكتشف أخيراً أن هذا التنظيم هو مجرد عنوان لا يمتلك أدنى حدود ثقل بين القواعد الموالية له داخل العراق، وإن التنظيم الآخر تنظيم عزت الدوري ومن استلم المسؤولية من بعده هو الأكثر مصداقية في ظل الانقسامات المتوالية؟ أم إنه وجد معارضة واسعة من أطراف القيادات الشيعية الحاكمة معه التي لا تتحمل سماع كلمة “البعث” من أي مصدر تنبع مياهها؟
صفقة استدراج واندماج مسؤول حزب البعث الجناح السوري في منظومة الحكم قد تعطلت لأسباب غير معروفة بعد السجال الإعلامي والتخوينات المتبادلة، وقد تتبعها تداعيات تهدد سمعة المالكي الشخصية باحتمال نشر النظام السوري بطرق غير مباشرة للوثائق الشخصية الخاصة بأيام المالكي في سوريا.
محاور عدة مهمة فضح من خلالها محمد رشاد الشيخ راضي في مقابلته الصحفية الأخيرة مع الزميل أسامة مهدي في موقع “إيلاف” نوري المالكي وحزب الدعوةً أبرزها: وصفه للمالكي بقصر النظر وعدم استيعابه للتطورات الحاصلة في العراق والمنطقة، وتنكره للفضل الكبير الذي قدمه له النظام السوري بأجهزته المتعددة في إيوائه وجماعته وتقديم أفضل خدمات الحماية والحركة، مثل حمله الهويات التي كانت تصدر من القيادة البعثية السورية وتؤمّن له الإقامة الشرعية في سوريا.
كشف محمد رشاد تناقضات مواقف المالكي بقوله “لو كان لديهم موقف مبدئي من اسم حزب البعث بشكل عام، فلماذا قبلوا دعمنا وإسنادنا لهم خلال فترة المعارضة وكانوا شركاء معنا في لجنة العمل المشترك؟ ولماذا يتنكرون لنا عندما سُلّمت لهم السلطة. هذا الموقف المؤسف فيه الكثير من التنكر لتاريخنا المشرّف في دعمهم وإسنادهم أيام الشدة عندما لم يجدوا من يؤويهم ويحميهم إلا سوريا”.
يبدو أن المالكي قد تخلى عن وعوده، ويقظته من كابوس عودة البعث للعملية السياسية وردود فعل محمد رشاد الشيخ راضي الإعلامية، حيث لم يكن مضطراً إلى التوسل بالمالكي ومناشدته العودة إلى أجواء المعارضة السابقة وليس كطرف بعثي قوي ابن مرحلة اليوم “آن الأوان لكي نجلس مع بعض كما كنا أيام المعارضة ونتفق على حلول تخدم الشعب بعيداً عن الشعارات والاتهامات. وهذا منطلق من موقع الحريص على إيقاف مسلسل الانتقام والعمل يداً بيد لتشكيل حكومة إنقاذ وطني تعمل على خدمة الشعب وليس العكس كما هو حاصل الآن”.
فات محمد رشاد أن طقوس المعارضة قبل عام 2003 قد طويت من أحاديث ومسيرة نوري المالكي وغيره من قادة الشيعة السياسيين، تُذكر اليوم أمجاد “بطولاتهم” للتغطية وتبرير الفشل والفساد غير المقنع للجمهور العراقي خاصة الشيعة الأصلاء الذين يواجهون بألم مسيرة الفشل والفساد وسرقة المليارات والجوع والأمية والمخدرات.
يبدو أن فصل الخديعة والمناورة في احتمالات عودة البعث برعاية زعيم الاجتثاث المالكي قد انتهى.