نصرالله في إطلالة “فشرتوا”: ندوب الأمس ودماء الغد
فارس خشان
يحتل سلاح “حزب الله” مرتبة متقدّمة جداً في الخطاب الإنتخابي اللبناني. هذا يهاجمه وذاك يدافع عنه.
وطالما اعتبر المدافعون عن هذا السلاح أنّ مهاجميه “شعبيون”، فهم يهدفون من وراء مواقفهم إلى جذب أصوات الناخبين.
وذهب الأمين العام للحزب حسن نصرالله، بعدما أنزل على هذا السلاح صفات “القدسية”، الى حسم النقاش، قبل أن تنطق صناديق الإقتراع بكلمتها، بقوله لكلّ من يرفع شعار نزع هذا السلاح: فشرتوا!
و”فشرتوا” كلمة يفهمهما اللبنانيون جيّداً، إذ إنّها الأكثر قدرة على التعبير عن مستوى التحدّي، وهي سبق أن ترجمت نفسها ميدانياً في السابع من أيّار/مايو 2008، عندما استعمل “حزب الله” سلاحه، في بيروت والجبل، دفاعاً عن جزء من سلاحه، إذ اعتبر يومها أنّ قرار الحكومة اللبنانية تفكيك شبكة الاتصالات غير الشرعية التي مدّدها في البلاد، هو اعتداء على “سلاح الإشارة” الذي يملكه، فردّ بهجوم عسكري استهدف أبرز سندَين للقرار الحكومي في حينه: “تيّار المستقبل” و”الحزب التقدّمي الإشتراكي”.
و”فشرتوا” ليست كلمة أخطأ نصرالله في استعمالها. العكس هو الصحيح، إذ إنّه يهدف من خلفها الى تعزيز الدعاية “التيئيسية” التي تستند الى أنّه لا يمكن لأيّ كان في لبنان، مهما كان حجمه السياسي والنيابي والشعبي، أن يخطو خطوة تنفيذية واحدة، في اتجاه نزع سلاح “حزب الله”، وتالياً فإنّ التصويت لهؤلاء على قاعدة معاداة هذا السلاح هو تصويت ل…وَهْم!
وتوقيت إطلاق شعار “فشرتوا” لم يأتِ عبثياً، إذ إنّه أعقب انتهاء مرحلتَي تصويت المغتربين في دول الإنتشار، ودراسة توجّهات هؤلاء الذين صمدوا، في بعض الأحيان، أكثر من أربع ساعات للوصول الى صناديق الإقتراع.
وقد بدا واضحاً، وفق القراءات الأوّلية للإقتراع الإغترابي، أنّ رفع الشعارات المعادية لسلاح “حزب الله” وللمنظومة السياسية التي يرعاها الحزب، قد أثمر فعلاً، الأمر الذي يمكن أن يسحب نفسه، يوم الأحد المقبل، على تصويت بيئات لبنانية لا يسيطر “حزب الله” عليها، بالترغيب حيناً وبالترهيب أحياناً.
ولأنّ المسألة كذلك، وبعدما اتّضح سقوط الدعاية الدفاعية التي اعتمدها “حزب الله” وحلفاؤه، لم يبق أمام نصرالله إلّا رفع التحدّي الى أقصى مستواه، بهدف إثبات قوّته الحاسمة من جهة أولى وإظهار عجز خصومه، من جهة ثانية.
ويُدرك نصرالله أنّ “الإغراء” بالذهاب مع الأكثرية النيابية التي يطمح إلى تعزيزها، بعدما كان قد حظي بها في العام 2018، الى الاهتمام بالملفات المالية والإقتصادية والمعيشية، لا يمكن أن يجدي نفعاً، لأنّ من يعتمدون الخطاب المعادي لسلاح “حزب الله”، في مجمله، لا ينطلقون من أبعاد عقائدية، إنّما يبنونه على أسس “براغماتية”، على قاعدة التأثير السلبي لهذا السلاح على العافية اللبنانية.
كما يُدرك نصرالله أنّ كثيرين من اللبنانيين الذين كانوا، قبل 19 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019 يفصلون بين سلاح “حزب الله” وويلات المنظومة السياسية، حظوا بما يكفي من أدلّة على أنّ هذا السلاح وهذه المنظومة يشكّلان وحدة متراصة، ويتبادلان خدمات وجودية.
وقد اختبر عموم اللبنانيين، بين 15 شباط/ فبراير 2014 و 19 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019 أنّ الفصل بين سلاح “حزب الله” والملفات المالية والإقتصادية والمعيشية لم يُنتج إلّا المآسي.
فقد تشكّلت حكومة الرئيس تمّام سلام وانتُخب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وأُقرّ القانون الحالي للإنتخابات على أساس إعطاء الأولوية لهموم الناس على الصراع السياسي حول موضوع “حزب الله”، إقتناعاً منهم بعجزهم أمام كلمة “فشرتوا”.
وبين هذين التاريخين تعرّض المصرّون على إثارة ملف سلاح “حزب الله” لاضطهاد معنوي وتنمّر قاس من الفرقاء الذين اعتمدوا هذه النظرية، ولكنّ النتائج التي انتهى إليها هذا المسار تمثّلت في الكارثة المأساوية.
وعليه، فإنّ كثيرين من اللبنانيين، ولو كانوا يدركون أنّ “حزب الله” سيتوسّل كلّ ترسانته لحماية سلاحه والمنظومة السياسية المساندة، لأسباب لبنانية وإيرانية في آن، إلّا أنّهم سوف يُجدّدون المحاولة لتعزيز ثقافة المواجهة، إيماناً منهم أنّ الإنقاذ يقتضي قيام دولة قويّة، وقيام هذه الدولة يستدعي حصر السلاح والوظائف الدفاعية، بالقوات المسلّحة اللبنانية.
إنّ محاولة “حزب الله” الإحتماء وراء عنوان “المقاومة” لتبرير توسّله كلمة “فشرتوا”، سقطت، من أساسها، عندما أثبت أنّ هذا السلاح يتم التهويل به على الداخل اللبناني لحصد مكتسبات سياسية، ويتم استعماله في الخارج خدمة لأجندة “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني”.
وخلافاً للدعاية التي يعتمدها “حزب الله” فإنّ الشرائح المعادية لسلاحه، لا تتطلّع الى الدخول في مواجهات مسلّحة، ولكنّها تتطلّع إلى إعطاء القوى التي تمثّلها شرعية جذب هذا الحزب الى طاولة الحوار الوطني المنتج.
والحوار المنتج لا يمكن أن يشبه جولات الحوار الوطني السابقة التي انتهت أولاها بذهاب “حزب الله” من خارج التفاهم الوطني الى إعطاء إسرائيل ذريعة لشنّ حرب على لبنان في تموز/ يوليو 2006، مستخفاً بالتحذيرات الجدّية التي وصلت إليه من كلّ حدب وصوب، وانتهت أخيرتها، بتمزيق “حزب الله” ل”إعلان بعبدا”، ونقل مقاتليه الى سوريا دفاعاً عن نظام بشّار الأسد، بحجج تطوّرت مع التطوّرات الميدانية، إذ بدأت بحماية المقامات الدينية الشيعية وانتهت بحماية كسروان من “داعش”.
“فشرتوا” كلمة تعبر بسرعة الى العقل اللبناني، ولكنّها، كما كلّ ما يزيد عن حدّه، تنتج مفاعيل عكسية.
مشكلة “حزب الله” الحقيقية تكمن في أنّه يبالغ في احتقار اللبنانيين الذين يعارضونه، مستنداً إلى قوّته العسكرية التي أصبحت عنواناً لإذلال جميع اللبنانيين.
وثمّة مخاوف جدّية من أن يتحوّل هذا السلوك الإستعلائي الذي ينم عن استخفاف كبير بما يمكن أن تحمله صناديق الإقتراع من رسائل، إلى حافز للجميع على اتّباع كلام الإمام موسى الصدر الذي استورده نصرالله من زمن مضى وظروف اختلفت: “التدريب على السلاح واجب كتعلّم الصلاة واقتناؤه واجب كاقتناء القرآن”.
إنّ انتصار “فشرتوا” على اللبنانيين هو الطريق الذي يشقّه نصرالله الى الهبوط بلبنان الى درك جديد من دركات الجحيم.
نقلا عن “النهار”