أهم الأخبارمقالات

إيران بين الحقائق والثقة المفرطة

 

حسن فحص

قد لا يكون الرئيس العائد للبيت الأبيض دونالد ترمب في حاجة إلى إعادة ما سبق أن قام به في التعامل مع إيران من حصار وعقوبات وتقليم ناعم لنفوذها في الإقليم، إذ تكفلت إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن خلال الأشهر الأخيرة من عمرها باستكمال ما بدأه ترمب.

عندما أشهر وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو شروطه الـ 12 بوجه النظام الإيراني كمدخل لأية مفاوضات بين الجانبين وإنهاء العقوبات الاقتصادية والحصار المالي والسياسي الذي يواجهه النظام الإسلامي في طهران، لم تلتقط الطبقة السياسية التي تملك ناصية القرار الإستراتيجي، باستثناء قلة ممن يعرفون العقلية الأميركية إلى حد ما، حجم التحديات التي ستواجهها خلال المراحل التالية.

شروط بومبيو التي أعلنها أواخر أبريل (نيسان) عام 2018 جاءت بعد أيام من إعلان سيد البيت الأبيض حينها دونالد ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي والعودة لسياسة العقوبات وفرض حصار اقتصادي خانق ومشدد على إيران لإجبارها على القبول باتفاق جديد يشمل جميع المستويات والملفات العالقة بين الطرفين، ومن ضمنها مسألة التفاوض المباشر والاستثمارات والشراكة الجدية في المشاريع الاقتصادية.

القيادة الإيرانية، السياسية والدينية والعسكرية، تعاملت آنذاك بكثير من فائض الثقة مع المطالب والشروط الأميركية حد أنها رفضت التعامل الإيجابي مع كل الجهود الدولية والإقليمية التي سعت من أجل إعادة إحياء الاتفاق النووي، وراهنت حينها على الشريك الأوروبي في تعويض الدور الاقتصادي الأميركي، ولعل الخطوة الإيجابية الوحيدة التي قامت بها طهران في تلك المرحلة هو إعلان تمسكها بالبقاء في الاتفاق الموقع مع السداسية الدولية عام 2015 وعدم الانسحاب منه، على عكس ما كان يتمنى ترمب.

فائض الثقة الإيرانية المبني على حجم التوسع وما حققته طهران من نفوذ في المنطقة عبر رأس مشروعها الإقليمي قاسم سليماني، وأنها باتت لاعباً تحتاج واشنطن إلى التفاهم والتفاوض معه لترتيب معادلات هذه المنطقة من بوابة الاعتراف بهذا الدور، وهذه الثقة انتقلت بالعدوى من إيران إلى المحور الذي تقوده في الإقليم، مما دفعهم إلى عدم قراءة أو الوضع في الاعتبار ما تحمله شروط بومبيو من تهديد مبطن، بل إن الإدارة الأميركية لن تكرر عرضاً مرة ثانية لطهران من أجل الجلوس إلى طاولة التفاوض والتفاهم، وقبل أن تكون واشنطن مجبرة على رفع العصا في وجهها.

الحصار الخانق الذي فرضته إدارة ترمب على إيران وأدى إلى تراجع صادراتها من النفط إلى أقل من 400 ألف برميل، إلى جانب حرمانها من عائداتها المالية والتجارية، لم يدفع النظام إلى إعادة التفكير في إدخال تغيير في تعامله مع المطالب الدولية، وأعلن مقاومة اقتصادية لمواجهة العقوبات ورفع مستوى دعمه لأذرعه في الإقليم، إضافة إلى تنشيط برنامجه النووي ورفع مستويات التخصيب إلى درجات غير مسبوقة مترافقة مع عرقلة أنشطة المراقبة التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ولم يتأخر الرد الأميركي، فكانت رسالة دموية بمدلولات واضحة على أهداف واشنطن ومستقبل المواجهة بين الطرفين عندما اغتالت مسيرات أميركية رأس المشروع الإيراني قاسم سليماني مطلع عام 2020 في بغداد، وعلى رغم ذلك استمرت طهران في التعامل مع هذه التطورات بفائض الثقة التي أوهمت نفسها بامتلاكه من خلال الشعار الذي رفعه المرشد الأعلى علي خامنئي بأن الرد على الاغتيال سيكون ثمنه إخراج القوات الأميركية من منطقة غرب آسيا، وهو ما كشف عن عجز داخل الدوائر الإيرانية في قراءة وفهم ما يجري داخل أروقة القرار الأميركي، وأن شروط بومبيو ما هي سوى ترجمة لهذه الخطط والتوجهات، ورؤيتها لآليات الحل في الشرق الأوسط الذي تريده وتسعى إليه.

قد لا يكون الرئيس العائد للبيت الأبيض دونالد ترمب في حاجة إلى إعادة ما سبق أن قام به في التعامل مع إيران من حصار وعقوبات وتقليم ناعم لنفوذها في الإقليم، إذ تكفلت إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن خلال الشهور الأخيرة من عمرها باستكمال ما بدأه ترمب، إذ تحولت هذه الشهور إلى امتداد لرئاسة الملياردير الجمهوري الأولى ومخططه في محاصرة إيران ونظامها وطموحاتها الإقليمية والنووية.

وبمراجعة سريعة لشروط بومبيو الـ 12 فمن السهل القول إن تنفيذها بدأ منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وهجوم “حماس”، وصولاً إلى سبتمبر (أيلول) الماضي والحرب التي خاضتها إسرائيل ضد “حزب الله” في لبنان والتي بدأت باغتيال الأمين العام للحزب، ومن ثم إلحاق أضرار جسيمة وصعبة بالجسم العسكري والتسليحي له، واستكملت ذلك بانهيار النظام السوري وهرب رئيسه بشار الأسد، مما أفقد طهران إمكان إعادة ترميم القدرات القتالية لحليفها الأول في لبنان بعد خسارتها رأس الجسر الذي كانت تشكله سوريا في هذا الإطار.

وفي المقابل فإن رفع إسرائيل وتيرة الحديث عن الخطر الحوثي في اليمن يعني أن الهدف العسكري المعلن خلال المرحلة المقبلة ستكون مهمته وضع حل نهائي لمصدر التهديد اليمني، وقد أشار إلى ذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صراحة عندما أكد أن المهمة التالية هي القضاء على آخر الأذرع الإيرانية في اليمن.

التركيز الإسرائيلي والأميركي والغربي على اليمن وتصاعد العمليات العسكرية ضده يطرح سؤالاً عن الذراع العراقية في المحور الإيراني، إلا أن التطورات على الساحة العراقية ومنسوب الخوف والرهبة التي تسيطر على قياداته السياسية توحي بأن هذه الجماعات على استعداد للدخول في أية تسوية تمنع استهدافهم وتقطع الطريق أمام أي تحرك يهدد الاستقرار أو النظام القائم، مما يعني بالنتيجة استعدادها للابتعاد من دائرة التأثير والنفوذ الإيراني المباشر، مع الاحتفاظ بالحد الأدنى من علاقات المصالح التي لا تزعج الجانب الأميركي، لا بل تساعده في تجنب حال من الفوضى الجديدة في العراق.

وعلى رغم الضربات القاسية التي تعرض لها المشروع الإقليمي للنظام الإيراني لكن المرشد الأعلى لا يزال متمسكاً بفائض الثقة عبر حديثه عن قوة المحور والمقاومة، من دون أن يتوقف عند الصفعة الأخطر التي تواجهه بتراجع الثقة بينه وبين الأذرع التي استثمرها في الإقليم، بخاصة في ظل حديثه المتأخر عن عدم امتلاك إيران أية قوات رديفة بل حلفاء في الإقليم، وهو أمر يكشف نوعاً من حال الإنكار التي يعيشها النظام بكل مستوياته المعنية بالقرار الإستراتيجي، وهذا قد يدفعها إلى عدم التقدير الصحيح لحجم ما أصاب مشروعها من خسائر وتراجع، وقد ينسحب سوء التقدير هذا على الملف الأخير في شروط بومبيو المرتبط بمستقبل البرنامج النووي.

ولعل الاستدراك الإيراني الوحيد في هذا الإطار هو تراجع الحديث إعلامياً عن إمكان حصول تغيير في العقيدة النووية، وأن تذهب طهران إلى إنتاج سلاح نووي، من دون أن تكون هناك أية إشارة من المرشد الأعلى، المعني الأول برسم هذه العقيدة وصاحب القدرة على الفتوى الدينية السياسية، إلا أن مؤشرات عن العقلانية لدى الحكومة الإيرانية وإدارتها الدبلوماسية بدأت بالظهور على ساحة الموقف الإيراني من خلال إعلان الاستعداد للعودة للتفاوض حول إعادة إحياء الاتفاق النووي بصيغة معدلة تساعد في معالجة نقاط القلق الغربية.

واشنطن في المقابل، والإدارة الجديدة، لم تقفل الباب أمام مثل هذا الحوار، بخاصة وأنها تملك توجهاً أوروبياً (ترويكا أوروبية) وتلويحها بإعادة الملف لمجلس الأمن وتفعيل آلية الزناد وعودة العقوبات الدولية، لكن إدارة ترمب تنتظر تغيراً جوهرياً في موقف طهران، وأن على القيادة هذه المرة أن تتجرع سم قرار التفاوض المباشر وتقديم التنازلات والتعاون الاقتصادي حتى لا يتحول البرنامج النووي إلى “حصان طروادة”، تلهب فيه أجهزة الطرد المركزي دور الجنود الذي يفتحون أبواب إيران، إما لحرب مباشرة لن تسلم منها كل المنشآت الحيوية والاقتصادية والعسكرية، وإما لزعزعة داخلية على طريق تغيير النظام من الداخل.

نقلا عن إندبندنت عربية

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى