أهم الأخبارمقالات

ويبقى السؤال… من سيتولى مهمة تحرير لبنان؟

سام منسى

الأربعاء الماضي، مرت الذكرى السابعة والأربعون لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان في 13 أبريل (نيسان) 1975. في كل سنة يسيل حبر كثير يغلب عليه الشعر والخطابة والتحفيز الحزبي الفئوي والطائفي لأطراف الحرب، إذ إن معظمهم مستمر بعناد في الحياة السياسية بشخصه أو نسله. ما الفائدة اليوم من العودة إلى ذكرى مرحلة مؤلمة ومدمرة في تاريخ لبنان الحديث؟ لعل مراجعة الحرب اللبنانية هذه السنة ضرورة، في مرحلة متأزمة تشهد متغيرات متلاحقة وانتخابات تشريعية مصيرية، ويكثر الحديث عن مبادرات فرنسية وفاتيكانية وغيرها. كل ذلك يستدعي السؤال عما إذا كان اللبنانيون قد تعلموا دروساً من آلام الحرب الأهلية أم لا، كما عن صحة انتهائها كما يردد السياسيون محذرين من العودة إلى شرورها؟ الإجابة عن السؤال الأول تكمن في الإجابة عن السؤال الثاني، إذ كيف لمن يفقه دروساً من حرب ما تزال مسبباتها وفواعلها حتى اليوم مستمرة بلا هوادة وبأشكال مختلفة ظاهرة وباطنة وعلى الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية كافة، بل هي حاضرة في الهواجس. كيف وصلت البلاد إلى هذا المنحدر وشهدت هذا الحجم من المتغيرات لو أن الحرب انتهت مع تسوية الطائف سنة 1989؟ لم تبدأ الحرب الأهلية في 13 أبريل 1975 ولم تنتهِ في 13 أكتوبر (تشرين الأول) 1990 بسقوط مغامرة العماد ميشال عون وخروجه من القصر الرئاسي على يد الجيش السوري، لأن التاريخين ليسا سوى محطتين من المحطات التي قطعتها الحرب متعددة المراحل. لا ننكر أن ما حصل في 13 أبريل 1975 كان الشرارة التي أشعلت مسلسل المعارك العسكرية، إنما لا يلغي تاريخ توقيع اتفاق القاهرة سنة 1969 الذي شرّع العمليات العسكرية الفلسطينية من جنوب لبنان وكشف هشاشة سيادة الدولة وتراجع الولاء الوطني. إن توقيع هذا الاتفاق بين قائد الجيش الماروني إميل البستاني والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وضع المدماك الأول للحرب الأهلية والغرق في وحولها. في هذا السياق، وللإفادة من دروس الماضي، ينبغي أن نلفت إلى أن هاجس الوصول إلى رئاسة الجمهورية في سنة 1970 لدى إميل البستاني وغيره من الزعماء الموارنة لعب دوراً مرجحاً في تمرير الاتفاق، وسمح لاحقاً لبعض القوى المسيحية بأن تحاول ضبط التفلت الفلسطيني المسلح الذي كان آنذاك مدعوماً من أطراف عربية كثيرة أبرزها النظام السوري على حدودنا، والناشط في تصدير أزماته الداخلية.
رغم حجم المخاطر التي شكلها تفّلت المنظمات الفلسطينية، فإن الخطيئة المرتكبة يومها هي أن غالبية المسيحيين اعتبروا أن مهمتهم وواجبهم الوطني وضع حد للوجود الفلسطيني المسلح، مما أدى فيما أدى إلى الخلط بين تفلت السلاح الفلسطيني ومطالب المسلمين بمزيد من المشاركة والصلاحيات في السلطة. بينما طالب التقدميون والعروبيون واليساريون بتغيير النظام بل اقتلاعه. الجهتان معاً أيدتا حينها الجانب الفلسطيني وسوريا، وبدأت شرارات القتال بين الجيش اللبناني والفلسطينيين سنة 1970 و1973 الذي وصل إلى حد استعمال الجيش لسلاح الطيران. وبدأت الشقوق بين اللبنانيين تتظهّر وتحولت إلى نزاع طائفي مسيحي – مسلم مسلح. لا بد من الاعتراف أيضاً بأن الاقتتال الداخلي لم يكن ولا مرة واحدة منذ سنة 1970 وعلى مدى 52 سنة من دون دور أو تحريض خارجي، مرة فلسطيني 1969 إلى 1982 وأخرى سوري من 1975 إلى 2005 وإسرائيلي 1978 إلى 1985 وحتى إلى سنة 2000 وبعدها سوري – إيراني 1983 إلى 2005 ومنذ عام 2005 تحول إلى تدخل إيراني صاف ونقي.
لعل هذا السرد للوقائع يشي من دون مواربة بأن الحرب لم تبدأ عام 1975 وما تزال حرباً كامنة تعلو وتخمد على الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
في السياسة، اغتيلت التسوية في الطائف يوم اغتيال الرئيس المنتخب رينيه معوض، وكرت سبحة الاعتداءات على الاتفاق عبر وصاية سوريا الأخطبوطية وتزلف وانبطاح قيادات لبنانية من الطوائف كافة أمامها. وبعد خروج النظام السوري من لبنان، تمادت عملية ضرب الطائف من خلال تعطيل عمل مجلس النواب ومجلس الوزراء والعقبات أمام رؤساء الحكومة المكلفين وبدعة الثلث المعطل بحجة الوفاقية في اتفاق الدوحة 2008 وإسقاط الحكومة عبر الاستقالة عام 2011. وأصبحت نافرة جلية منذ 2016 مع وصول العماد عون مرشح «حزب الله» إلى رئاسة الجمهورية بعنوان صريح هو استعادة حقوق المسيحيين وصلاحيات رئيس الجمهورية.
في الأمن، كان تسلسل الأحداث أكثر وضوحاً وقسوة، وصار مملاً تعداد مسلسل الاغتيالات الذي حصد العشرات، بدءاً بالرئيس رفيق الحريري وصولاً إلى المثقف الملتزم لقمان سليم، إلى التصفيات الجسدية، تعرضت البلاد لأهوال حرب يوليو (تموز) 2006 التي افتعلها «حزب الله»، ومن ثم لغزوته بيروت والجبل سنة 2008 لترويض السنة والدروز وجرهم عنوة إلى بيت الطاعة ومصادرة صناعة القرار، مما سمح لاحقاً بتدخل «حزب الله» العسكري في سوريا واليمن وغيرها خارج الحدود خدمةً لسياسات وأهداف غير لبنانية. إلى هذه العناوين الرئيسية لا بد من أن نذكّر في الأمن أيضاً بالمعركة مع الشيخ أحمد الأسير في منطقة صيدا، ومعارك مخيم نهر البارد، إلى استعمال فزاعة تنظيم «داعش» الإرهابي والادعاء بمحاربة «الإرهاب السني المتشدد» في البقاع.
الحرب الأهلية مستمرة أيضاً في وجهيها الاقتصادي والاجتماعي. فقد قُضي على الطبقة الوسطى وأنماط حياتها بعد أن شهد الاقتصاد أفظع الجرائم بحق البلاد والعباد، بداية باستهداف وسط العاصمة عبر تعطيله باعتصام استمر نحو 18 شهراً أصابه بأضرار جسيمة، لتكمل عليه فيما بعد المظاهرات والاعتصامات وأعمال الشغب بين 2019 و2021. بعدها تبخرت أموال المودعين في المصارف وانهارت العملة الوطنية وشهدت البلاد أكبر انهيار مالي واقتصادي في تاريخها يصعب كثيراً أن تخرج من تداعياته وتعود إلى سابق عهدها. الانهيار طال معظم البنى الأساسية التي يقوم عليها النظام الاقتصادي، وطال إلى جانب المصارف قطاعات التعليم والاستشفاء والسياحة وباقي الخدمات التي تميز بها لبنان. وقائع جرّت البلاد قسراً إلى مآلات في الاقتصاد والاجتماع بعيدة عن إرادة غالبية أهلها.
نعم الحرب مستمرة ومشغلوها كما في كل مراحلها السابقة هم إياهم، لبنانيون وغير لبنانيين. أما لجهة الدروس من تجارب الماضي، يبدو مما نشهده أننا ما نزال ندور في الدائرة نفسها ولا عبرة لمن لا يعتبر، بينما عملية الترويض من قِبل «حزب الله» تأخذ مداها، والأطراف اللبنانية متنازعة على فتات مصالح وعدد من المقاعد في البرلمان وحماية المصالح الفردية الضيقة من مناطقية أو طائفية أو مالية.
في مراحل الحرب الأولى كان يتردد ويؤمل أن يكون الحل في معالجة الوجود الفلسطيني المسلح والمتفلت والمنحرف. بعدها بات خروج سوريا وجيشها هو الحل، آخرون اعتبروا أن تحرير البلاد من الإسرائيلي هو نهاية المطاف. المحصلة أن الفلسطيني المسلح غادر مهزوماً، والجيش السوري انسحب مقهوراً، والجنوب تحرر بينما لبنان ما يزال محتلاً ليس من إيران فحسب، بل من أداء وممارسات اللبنانيين أنفسهم التي أفضت إلى فشل دولتهم وما يترتب على ذلك من تبعات جسام. والحال على ما هي عليه، من سيتولى إذن مهمة تحرير لبنان؟

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى