مقالات

واقع يمني جديد: الحوثي أمام لحظة الحقيقة

 

عبد الوهاب بدرخان

استطاعت المشاورات اليمنية – اليمنية في الرياض، برعاية مجلس التعاون الخليجي وتحت مظلة الشرعية، أن تُحدث اختراقاً في الجمود السياسي المتمادي للأزمة، خصوصاً أنها جاءت في ظروف دولية وإقليمية متغيّرة، ووسط جهود أممية مركّزة نجحت في ترتيب هدنة عسكرية لمدة شهرين قابلة للتجديد، على رغم ما يرافقها من خروق حوثية.

فمن جهة، أدّى اتساع تمثيلها المجتمعي للمشاركين في المشاورات الى جعل غياب الحوثيين مجرد تفصيل يتحمّلون هم مسؤوليته، ومن جهة أخرى، كانت الرسالة التي أطلقتها من أجل “إنهاء الحرب وبناء السلام” أقوى من مراوغات الحوثيين وتكرارهم الأسطوانة المشروخة ذاتها تهرّباً من لحظة الحقيقة.

أقدم جناح الشرعية في اليمن على خطوة جدّية ومدروسة جرى التعبير عنها بأنها “مشروع لاستعادة الدولة”، بإرادة يمنية، ودعمٍ خليجي ودولي وأممي. لكن الجانب الانقلابي اعتبرها “ترتيباً للصفوف استعداداً لمزيد من التصعيد”، متجاهلاً أن “مجلس القيادة الرئاسي” دُعي لحظة ولادته إلى التفاوض مع جماعة الحوثيين، ولم يُطلب منه أن يحاربهم، وهو بالتأكيد سيواصل قتالهم إذا ما استجابوا جنوحه إلى السلم، إذ إن رئيسه رشاد العليمي قال إن المجلس “هو مجلس سلام، إلا أنه أيضاً مجلس دفاع وقوة ووحدة صف مهمته الذود عن سيادة الوطن وحماية المواطنين”.

بدت الخطوة الجديدة ممكنة بإعلان الرئيس عبد ربه منصور هادي ذلك التفويض الدستوري إلى “مجلس القيادة” هذا بممارسة كل صلاحياته، ليبقى رئيساً رمزياً مجسّداً لشرعية لا بدّ منها، وليس تنفيذياً. يستند المجلس الجديد إلى وجود أطراف رئيسية في عضويته (حزب المؤتمر الشعبي العام، تجمع الإصلاح، المجلس الانتقالي الجنوبي) وتعاونه “هيئة للتشاور والمصالحة” تتمثّل فيها الأطياف اليمنية كافة، ولجان قانونية واقتصادية وأخرى متخصصة.

قد يقال إن هذا الترتيب جاء متأخراً، نظراً إلى أن محاولات بُذلت غداة إخفاق مفاوضات الكويت برعاية الأمم المتحدة عام 2016، وتولّاها آنذاك وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري، مستخدماً اتصالاته مع طهران ولقاءاته المباشرة مع الحوثيين في مسقط.

لكن الصيغة لم تكن قد نضجت في ذلك الوقت، ولم يكن الوضع الميداني يبرّرها، فضلاً عن أنها قاربت تجاوز الشرعية التي ترتكز عليها مرجعيات الحل السياسي كافةً. خلال الأعوام الستة الماضية طرأت متغيّرات كثيرة: اندفاعات الحوثيين شرقاً وصولاً إلى مأرب، زحف الشرعيين على الساحل الغربي وصولاً إلى الحديدة، محاولة الرئيس الراحل علي عبد الله صالح إعادة إبراز نفوذه في مناطق الحوثيين وإقدام هؤلاء على اغتياله والتخلّي عن حلفهم معه، وأخيراً تمرّد الفصائل الجنوبية على الحكومة الشرعية ومطالبتها بتكريس الانفصال… كلٌّ من هذه المتغيّرات التي طرأت على الوضعين الميداني والسياسي يمثّل حالاً من تعقيدات الوضع اليمني بمقدار ما يشير إلى تداخل بين التوجّهات الدولية وتعارضها، لكنها ساهمت في نهاية المطاف في معاودة البحث عن تغيير عملي براغماتي في الإدارة اليمنية للأزمة يمكن أن يحظى بمواكبة خليجية وأميركية وأممية.

يكمن الفارق بين محاولات عام 2016 وترتيبات 2022 في أن الأخيرة توصّلت إلى توضيح التوازنات اليمنية التي ينبغي أن تُبنى عليها أي تسوية سياسية. ففي السابق طلب الحوثيون تقاسم السلطة مناصفةً مع الحكومة الشرعية، استناداً إلى ثلاثة عناصر: سيطرتهم على كل معسكرات الجيش ونهبهم كل أسلحته، واستيلاؤهم على كل المقار الحكومية، وكذلك تحالفهم مع علي صالح وحزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم سابقاً، بما له من امتدادات عسكرية وقبلية ومجتمعية…

هذا العنصر الأخير والمهم في الصيغة لم يعد قائماً، ولعل مشاورات الرياض أرسلت إلى الحوثيين إشارات عدة لا يستطيعون تجاهلها: منها، أولاً، أن سلطة الأمر الواقع التي أقاموها لا تحظى بأي قبول مجتمعي ولا تمكّنهم من إدامة هذه السلطة إلى ما لا نهاية… ومنها، ثانياً، أيضاً أن المواطنين اليمنيين يتوقون إلى التخلص من ربقة الاحتلال الحوثي الذي يعرّضهم لأكبر عملية نهب وإهانة لم يشهدوا مثلها في تاريخهم، ويمارس ضد العرب القحطانيين منهم أسوأ تمييز، إذ يقصيهم من وظائفهم في تجريف متعمّد، والأسوأ أنه ماض في تخريب منهجي لأنظمة الصحة والتعليم ولأعراف التراحم والتضامن الاجتماعي، حتى أنه يسلب مساعدات الإغاثة الدولية ليعيد بيعها في الأسواق… ومنها، أولاً وأخيراً، أنه برهن عدم أهليته في بناء دولة وعدم مبالاته بالشعب، وقد حرفه تنفيذ الأجندة الإيرانية بالصواريخ والطائرات المسيّرة عن كل الشعارات الخادعة التي رفعها لاستمالة المجتمع والإيحاء بأنه يعمل بمنطلقات وطنية.

جاء التغيير في القيادة اليمنية، وفي إطار الشرعية المستمرة وفقاً لتوازنات جديدة، خلال الهدنة التي اضطرت طهران للموافقة عليها بسبب ظروف التفاوض النووي في فيينا. وبالتالي فإن الحوثيين وجدوا أنفسهم عاجزين عن الردّ بتصعيد عسكري، وبطبيعة الحال ليست لديهم أي مقوّمات للردّ السياسي.

ليس مهماً أن يعلن ناطقهم محمد عبد السلام رفض هذا التغيير ليذكّر بـ”وقف العدوان ورفع الحصار وخروج القوات الأجنبية”، إذ إن مخرجات مشاورات الرياض أظهرت أن القرار اليمني لا يزال عند القوى الشرعية، بدليل أنها شكّلت لليمنيين في الداخل والخارج بارقة أمل، وأعادت تصويب وجهة البوصلة اليمنية. ذاك أن ترتيب البيت اليمني وصوغ خريطة طريق لـ”إحياء الدولة” ووجود مجلس التعاون الخليجي، ولا سيما السعودية كضامن للتوجهات الجديدة، تُشعرهم بأن اليمن المريض والمنكوب لن يُترك للمصير البائس الذي تريده إيران وحوثيّوها.

مع التسليم بأن التحديات لا تزال كبيرة، هناك أكثر من مجرّد انطباع، يمني وغير يمني، بأن حسّ المسؤولية والجدّية الذي انبثق من مشاورات الرياض، والحسّ الشعبي الذي تجاوب معه، أشاعا بداية واقع جديد. كان هناك سرّ شائع، قبل بدء المشاورات، بأن تغييرات ستحصل، وأن نائباً للرئيس أو نواباً سيعيّنون مكان النائب السابق علي محسن الأحمر، لكن مجلس القيادة بعسكرييه ومدنييه، وبالجدد والمخضرمين، بدا صيغة جريئة ترمي إلى قصر الطريق على التناقضات وحصرها في إطار مؤسسي واحد، يستلزم أيضاً حساً وطنياً عالياً لتحقيق الأهداف المنشودة. تبقى هناك خشية من السوابق السيئة التي كانت المصالح الفئوية فيها تطغى دائماً على المصلحة الوطنية، لكن القاعدة التي باتت الآن تحكم الجميع، وتحاصر الحوثيين خصوصاً، هي أن الحلول سياسية ولم تعد عسكرية.

نقلا عن “النهار العربي”

 

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى