أهم الأخبارمقالات

هل رجال الدّين هم سادة المجتمعات الشّيعيّة؟

 

حسن المصطفى

منهجياً، يجب التفريق بين مستويين: علماء الدين، ورجال الدين.

العلماء، هم المختصون في حقل ما، ونسبتهم إلى الدين، مفادها أنهم يعملون على دراسة العلوم المتعلقة بالدين: الفقه، العقائد، تفسير القرآن، أصول الفقه، اللغة العربية، المنطق، غايات الأحكام… وسواها من الحقول التي على “عالم الدين” أن يكون ملماً بها كي يصل إلى مرحلة الاجتهاد، ويعي “مقاصد الشريعة” ويستطيع أن يقدم آراء فقهية تجيب عن أسئلة المؤمنين بما يتناسب وتطور الزمان واختلاف المكان وتقدم الأمم والحضارات.

أما رجال الدين، فهم تيار واسع يضم من يرتدي “الزي الديني”، ويمارس دوراً أكبر من مجرد تبيان الأحكام الشرعية في “العبادات” و”المعاملات” التي يمارسها المؤمنون في حيواتهم اليومية. هؤلاء “الرجال” باتت لديهم سطوة الخطاب، وأدوات التأثير، وقوة الإكراه، بمعنى أنهم تحولوا إلى “سلطة” فعلية، مستفيدين من انجذاب عامة الناس إلى الدين، ومن “رأس المال الرمزي” للنص الديني الذي له مكانته في نفوس المسلمين.

“علماء الدين” أليس لديهم سطوتهم أيضاً؟ بالتأكيد، هم يمتلكون نفوذهم الخاص، لكنه نفوذ بطبيعته محدود، ولا يتدخل في المفاصل الحساسة والدقيقة لحياة الناس أو مجريات الشأن العام، وخصوصاً لدى علماء الدين الكلاسيكيين الذين يفصلون بين “مؤسسة الحكم” و”الدين”، ويرون أن انخراط علماء الدين في العمل السياسي أمر غير مرغوبٍ، بل ممجوج، ويضر بالدين والحكم معاً.

الأوضاع السياسية والاجتماعية التي أعقبت نكسة حزيران (يونيو) 1967، وصعود شعار “الإسلام هو الحل”، وعودة آية الله الخميني إلى إيران 1979، واحتلال جهيمان العتيبي للحرم المكي الشريف، والغزو السوفياتي لأفغانستان، وتالياً التعبئة لـ”الجهاد الأفغاني”، كل ذلك جعل تسيد “الإسلام السياسي” أو ما عرف في السعودية بـ”الصحوة” أمراً واقعاً، وهو ما دفع لأن يكون رجال الدين في الواجهة!

إذاً، رجل الدين، الموجّه أيديولوجياً وطائفياً وسياسياً في معظم الأحيان، أصبح هو قطب الرحى، ليس في المجتمعات السنية وحسب، بل الشيعية أيضاً، ما دفع الصراع المذهبي لأن يكون أكثر شراسة وضراوة.

المسلمون الشيعة، ولكونهم أقلية مذهبية في العالم الإسلامي، كان رجل الدين هو الحاضر بوصفه المنافح عن أبناء الطائفة، والصادّ عنهم هجمات المناوئين وشبهاتهم العقائدية.

صعود التيارات السلفية والصحوية السنية، أحدث تلقائياً صعوداً للسلفية والصحوية الشيعية، أي أن هناك علاقة طردية، جعلت الدكة للتيارات المتأسلمة، ومكّنتها من فرض تصوراتها الأقلوية، ونظرتها الضيقة إلى الحياة.

ارتباط المسلمين الشيعة بمرجعياتهم الفقهية، التي يأخذون منها الأحكام الشرعية، ومع بروز علماء مسيسين، يؤمنون بـ”ولاية الفقيه” أو “شورى الفقهاء”، كالسيد روح الله الخميني والسيد محمد الشيرازي، دفع برجال الدين الشيعة لأن تكون لهم أدوار أكبر وأشد تأثيراً.

إبان مرجعية الراحل السيد أبو القاسم الخوئي، الذي كان يمثل المدرسة الكلاسيكية، كان للوكلاء التابعون له تأثير في المؤمنين، ولدى بعضهم آراء اجتماعية ضيقة الأفق، وآخرون أكثر انفتاحاً ومرونة، إلا أن سطوتهم الثقافية والسياسية لم تكن نافذة، لأنهم بالأساس بعيدون من الأحزاب والتيارات، وضد “الدولة الدينية” وفق التصور الذي روّجت له الإسلاموية الحركية.

من هنا، بروز “الإسلام السياسي الشيعي”، الذي تغذى من أفكار مرجعيات ثلاث رئيسة: الموسوي الخميني، محمد باقر الصدر، محمد مهدي الشيرازي؛ أثمر تكوين جماعات مثل: “حزب الله”، “حزب الدعوة”، “منظمة العمل الإسلامي”، بتفرعاتها المختلفة، وأجنحتها المتعددة، السياسية منها والثقافية وحتى العسكرية.

هذه التشكيلات الحزبية والتياراتية كانت ولا تزال تنعم بجمهور من الأتباع، لكنه جمهور لا يمثل المواطنين الشيعة بمختلف أطيافهم، لأن المجتمعات الشيعية في الخليج العربي والعراق ولبنان، وحتى في إيران، هي مجتمعات متنوعة، ليست على رأي واحد، ولا تنساق خلف وجهة نظر صارمة وثابتة.

هنالك التيارات الليبرالية، واليسارية، والوطنية، وهنالك المثقفون المستقلون، وهنالك المؤمنون الطبيعيون الذين لا يعتقدون أنهم بحاجة إلى رجل دين يصلهم بالله!

إذاً، التصور القائم على أن المجتمعات الشيعية لا يمكنها أن تقاد إلا عبر رجال الدين، هو تصور غير واقعيّ، وهو نتاج رؤية نمطية ساهم في تغذيتها نظام الحكم في إيران، وأنصار الحركية الشيعية، وأيضاً خصوم المسلمين الشيعة، من التيارات المتشددة مثل “السرورية” والتي تريد أن تقدم الشيعة وكأنهم كتلة مصمتة واحدة تتبع “الولي الفقيه” وتطيعه من دون مساءلة!

الشيعة في السعودية والخليج العربي، هم مواطنون يتمتعون بالحيوية، والتفاعل، والاندماج في التغيرات التي تجري في دولهم، وبالتالي، هم ليسوا منفعلين سلبيين أو مراقبين معزولين على قارعة الطريق. وهذه الحيوية تدفعهم يوماً بعد آخر لأن تكون لديهم العديد من الآراء المستقلة والناقدة للأفكار المتطرفة والخطابات المتمذهبة.

الكفاءات الوطنية، والمختصون في العلوم المختلفة، والخبراء في الصحة والهندسة والسياسة والإدارة والثقافة، والمبدعون في الفنون والأدب والموسيقى والرسم والرياضة، هم النخب التي تؤثر تأثيراً متزايداً في أوساط المواطنين الشيعة، وتجعلهم أكثر تحرراً مما سبق إبان زمنِ “الصحوة” التي أحكمت خناقها على شرائح واسعة من المواطنين في الخليج.

عندما يتخلى “رجال الدين” عن سطواتهم، ويتمثلون نموذج “عالم الدين” الأخلاقي والرحماني، ساعتها ستكون لهم مكانتهم الطبيعية في المجتمع، من دون مبالغة ومن دون عداوة لأي أحد منهم، لأنه لم يعد ممكناً أن يمارس المتأسلمون النفوذ ذاته، في زمن ترفض فيه المجتمعات الوصايات الأبوية باسم المقدس!

* نقلا عن ” النهار”

 

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى