من الخليج الفارسي إلى الخليج العربي… إيران القلقة دوماً من مرونة التسميات
اندلع مؤخراً خلاف جديد بشأن قضية قديمة تتعلق بتسمية المسطح المائي الذي يفصل إيران عن جوارها العربي غرباً. هل هو الخليج الفارسي أم الخليج العربي، أم شيء آخر؟…
تسمية الخليج الفارسي قديمة جداً، تعود على الأكثر إلى ما قبل 2500 عام، في القرن السادس قبل الميلاد، في عهد داريوس الأول، خامس وأعظم ملوك السلالة الأخمينية التي تعتبر أول سلالة إمبراطورية فارسية حاكمة في التاريخ. استمرت هذه الإمبراطورية نحو 220 عاماً قبل أن يطيحها الإسكندر المقدوني في عام 330 قبل الميلاد. في عهدها الذهبي في سنوات داريوس الذي حكم نحو 36 عاماً، كانت أكبر إمبراطورية عرفها العالم حتى ذلك الوقت، إذ امتدت من مصر غرباً مروراً بتركيا وصولاً إلى البلقان في أوروبا الوسطى. في امتدادها الآسيوي وصلت هذه الإمبراطورية إلى شمال الهند. في عهد مؤسسها قورش الأول، أطاحت الدولة الأخمينية الأمبراطورية البابلية وسيطرت على ضفتي الخليج. في مثل هذه السياقات القائمة على السيطرة، كان طبيعياً أن يعطي الأقوى للمعالم الجغرافية كالمدن والمسطحات المائية الأسماء التي يراها مناسبة، كما فعل داريوس الذي يُقال إنه أول من أطلق تسمية الخليج الفارسي على المسطح المائي الفاصل بين إيران وشبه الجزيرة العربية. أفعالُ التسمية والتعريف للأمكنة هذه يطلقها الأقوياء عادةً، إذ سبق الأخمينيين في هذا البابليون والآشوريون والأكديون والسومريون. أطلق هؤلاء وغيرهم تسميات مختلفة سبقت الخليج الفارسي على هذا المسطح المائي كبحر أرض الإله والبحر المر وبحر البزوغ / الشروق الكبير وبحر الكلدان والبحر السفلي.
استقرت تسمية الخليج الفارسي أو بحر فارس لفترة طويلة من الزمن، اتساقاً مع تواصل هيمنة سلالات إمبراطورية فارسية تالية، كالإمبراطورية الفرثية التي تفككت بفعل الصراعات الداخلية لتَخْلفها آخر السلالات الإمبراطورية الفارسية: الإمبراطورية الساسانية التي أطاحتها الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي. على امتداد أكثر من ألف عام من سيطرة هذه السلالات الحاكمة الفارسية على المنطقة، كان منطقياً أن تصبح الكثير من تسمياتها الجغرافية واقعاً طبيعياً. حتى المسلمون العرب الذي استبدلوا الحكم الفارسي ورثوا التسمية وقبلوها واستخدموها، ففي العهد النبوي مثلاً استخدمها، على عادة أهل زمانه، النبي محمد في حديث منسوب له، في كتب حديث وتفسير كصحيح البخاري والتفسير الكبير للرازي، وذلك في سياق تفسير الآية 60 من سورة الكهف بإشارتها إلى مجمع البحرين الوارد في قصة رحلة للنبي موسى مع فتى يخدمه كما ترويها الآية. التسمية ظهرت أيضاً في كتب الكثير من المؤرخين كاليعقوبي والطبري وابن خلدون في إطار استخدام شائع لم يكن خلافياً أو مدعاة للنقاش.
تَغيُّرُ السلالات الحاكمة، وما يتبعه من تغيّر السياسات هو الذي قاد إلى أول تحدٍّ جدي لاستخدام الخليج الفارسي. ففي إطار الصراع العثماني – الفارسي على النفوذ في المنطقة، استخدم العثمانيون بصورة رئيسية تسمية خليج البصرة في تأكيد ضمني على عائدية المسطح المائي لهم في ظل سيطرتهم على الجانب الغربي من الخليج. استخدموا تسميات أخرى كخليج القطيف. لكن خليج البصرة، التي لها جذر تاريخي قديم لكن ثانوي، أصبحت شائعة ورسمية على الجانب العثماني.
انتهاء سيطرة الدولة العثمانية على المنطقة بخسارتها الحرب العالمية الأولى وفقدانها شبه الجزيرة العربية والعراق، أعاد الصدارة المطلقة لتسمية الخليج الفارسي. على امتداد القرن العشرين، رسخت التسمية في الاستخدام الصحافي العالمي وفي مؤسسات الأمم المتحدة وفي المناهج الدراسية، بضمنها العربية. في الخمسينات فصعوداً ظهر تحد آخر لتسمية الخليج الفارسي، ففي إطار صعود القومية العربية أخذ يبرز استخدام “الخليج العربي”، وهي تسمية قديمة للبحر الأحمر سابقة كثيراً على ظهور الإسلام. كان موقف إيران الشاهنشاهية، حليفة الغرب ومناصرة إسرائيل حينها، يمثل حوافز إضافية للتمسك بالاسم الجديد.
كانت ردود إيران بخصوص استخدام صفة “العربي” في وصف الخليج تتسم دائماً بالمبالغة التي كانت تأخذ شكل الغضب العلني. ظهر هذا واضحاً في رد الفعل الإيراني مثلاً على تأكيد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن الخليج عربي في لقاء تلفزيوني مؤخراً، إذ استدعت الحكومة الإيرانية السفير العراقي لديها للاحتجاج على كلام السوداني، فيما لام السوداني بشدة برلمانيون إيرانيون ووصفته وسائل إعلام إيرانية بناكر الجميل! في الحقيقة كان مجرد إسقاط صفة “الفارسي” من تسمية الخليج كافياً لإثارة انزعاج إيراني. في عام 2006 مثلاً نشرت مجلة “الإيكونوميست” البريطانية الشهيرة مقالة استخدمت فيها كلمة الخليج فقط من دون إضافة صفة “الفارسي” أو أي صفة أخرى. منعت إيران دخول العدد إليها. وفي عام 2008 أسقط متحف اللوفر الفرنسي الصفة نفسها في وصف المسطح المائي من منشوراته، ليواجه حملة ردود إيرانية محتجة وغاضبة. وفي عام 2010 استخدم مسؤول أميركي في زيارة له للرياض عبارة “الخليج العربي” في إطار ذكره تعاون أميركا مع دول الخليج والشرق الأوسط. كان الرد غضباً إيرانياً شمل حتى المعارضة الإيرانية في الولايات المتحدة، بلغ حد كتابة إحدى شخصياتها مقالة في “واشنطن بوست” اعتبرت استخدام مصطلح “الخليج العربي” إهانةً واستفزازاً ويشي باستراتيجية أميركية “لتعميق الانقسامات الإثنية”.
ليس في القانون الدولي آلية لحسم الاختلافات بخصوص تسمية الأماكن الجغرافية، فهذه تقوم على الشياع والاتفاق وليس على قرارات ملزمة أو اتفاقات دولية. بحسب رأي قانوني بخصوص حالات الاختلاف في تسمية هذه الأماكن، أصدرت “مجموعة خبراء الأمم المتحدة حول الأسماء الجغرافية” (UNGEGN) المتشكلة في عام 1959 بحسب قرار للمجلس الاقتصادي والثقافي التابع للأمم المتحدة (ECOSOC)، توصية في عام 1977 تدعو فيها الأطراف المتنازعة لإطلاق الاسم الذي تشاء على المكان الجغرافي موضع الخلاف. بمعنى آخر، سمحت هذه التوصية بازدواجية التسميات في سياقات الاختلاف بين الدول. عملياً، تحدث مثل هذه الاختلافات كما في الخلاف الياباني – الكوري على تسمية بحر اليابان، إذ تصر الكوريتان الشمالية والجنوبية على رفض استخدام تسمية بحر اليابان لأنه جاء كجزء من سياسات الفرض الاستعماري اليابانية في القرن التاسع عشر. على هذا الأساس، تطالب كوريا الجنوبية باستخدام تسمية بحر الشرق فيما تطالب كوريا الشمالية باستخدام تسمية بحر شرق كوريا. خلاف آخر في التسمية يتعلق بـ”القنال الإنكليزي”، وهو التسمية التي يستخدمها البريطانيون في وصف البحر الذي يفصلهم عن فرنسا، فيما يصر الفرنسيون على استخدام تسمية “المانش” التي تعني بالفرنسية القنال بإسقاط كلمة الإنكليزي.
مثل هذه المرونة مرفوضة إيرانياً، ففي زيارة أمير قطر لإيران في 2006 استخدم الرجل تسمية “الخليج الفارسي العربي” في مؤتمر صحافي جمعه مع الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد. وُوجهت التسمية حينها بموجة من الغضب والسخرية الإعلامية الإيرانية! الخليج، سواء كان فارسياً أو عربياً، هو خليج الجميع، بحسب أمير قطر حينها، وليس ثمة مشكلة أن يكون له اسمان أو ثلاثة، فهذا المسطح المائي الواسع لا تمتلكه دولة أو ثقافة واحدة كونه مشتركاً بين دول وثقافات متعددة. الواحدية الإيرانية مقلقة وتشي برفض واضح للتعددية والمرونة، كما هي سياسات الجمهورية الإسلامية في المنطقة عبر محور المقاومة الذي يفهم الأشياء على أساس صراعات بين أخيار وأشرار. التسميات المختلفة للشيء نفسه لا تعني بالضرورة أن التسمية الأخرى تنطوي على الشر!
نقلا عن النهار