ما ترغب فيه إيران ولا يريده نتنياهو
حسن فحص
ما قاله الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان حول رؤيته لاحتمالات العلاقة بين بلاده والولايات المتحدة الأميركية لم يكُن مفاجئاً في مضمونه، إلا أن المفاجأة جاءت من الصراحة التي كشف فيها الرئيس خلال أول لقاءاته مع وسائل الإعلام المحلية والدولية، عن الجدل الحاصل في كواليس التفكير الإيراني، وما يدور من جهود لإعادة ترميم هذه العلاقة.
كلام بزشكيان أخرج الموقف العدائي المسيطر على العلاقة بين النظام الإيراني والولايات المتحدة على مدى العقود الأربعة الماضية، إلى إمكان الصداقة “والأخوة” والعلاقة المتوازنة، مما يشكل تطوراً طبيعياً لمسارات طويلة من المفاوضات والحوارات والتعاون في عدد من الملفات على المستويين الدولي والإقليمي بين الطرفين.
ولا يمكن اعتبار كلام الرئيس الإيراني مجرد “سقطة” أو “فلتة لسان” سبقت منه وقد يجبر على التراجع عنها، بخاصة إذا ما فسرت على أنها تتعارض مع الموقف الذي سبق أن أعلنه المرشد قبل أسابيع خلال لقائه مع بزشيكان وفريقه الحكومي عندما أعطى الضوء الأخضر لإمكان التفاوض مع الجانب الأميركي مع الاحتفاظ والتمسك بوصفه “العدو”.
اللقاءات غير المباشرة التي تستضيفها العاصمة العمانية مسقط بين الطرفين، وتلك اللقاءات المباشرة التي يقودها مندوب إيران الدائم لدى الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني في كواليس مبنى نيويورك، يبدو أنها وصلت إلى مرحلة متقدمة، سمحت للرئيس أن يخرج عن الخطاب الحذر وأن يؤكد التوجه الذي سبق أن أعلنه عن الاستعداد للذهاب إلى التفاوض مع كل الأطراف بناءً على المصلحة الإيرانية وبما يضمن التخلص من الضغوط الناتجة من العقوبات الاقتصادية التي قصمت ظهر الاقتصاد الإيراني وأثرت عميقاً في حياة الإيرانيين ومعيشتهم.
الخطوة الجريئة وغير المسبوقة في الأدبيات السياسية الإيرانية تجاه الموقف من العلاقة مع الولايات المتحدة وإمكان أن تكون علاقة “أخوة وصداقة” لم تكُن من دون شروط تلبي الرؤية الاستراتيجية للنظام في طهران، وأن المدخل إلى الانتقال إلى مستوى جديد، أو العودة لما كان قبل عقود من علاقة، يجب أن تتوافق مع المستجدات التي حصلت على موقع إيران ودورها في الإقليم، بخاصة في هذه المرحلة وما تشهده من تطورات ومحاولات إرساء معادلات سياسية وجيوستراتيجية وحتى جيوسياسية في الإقليم.
وفي مقابل ما أكده بزشكيان من التزام إيران ما نصت عليه دول السداسية الدولية (5+1) في الاتفاق النووي الموقع في تموز 2015، طالب هذه القوى بالتزام ما وقعت عليه، مما يعني أن إيران على استعداد للعودة لما جاء في هذا الاتفاق من شروط خاصة بالأنشطة النووية ومستويات التخصيب وحجم تخزينها لليورانيوم المخصب، مقابل التزام الموقعين رفع العقوبات ووقفها بصورة كاملة، أي إن على واشنطن الوفاء بالتزاماتها التي وفرها الاتفاق مقابل أي مسار قد يساعد على تطبيع العلاقة بينها وطهران.
ويبدو أن الرئيس الإيراني وضع في اعتباراته إمكان حدوث خرق في زيارته إلى نيويورك في ما يتعلق بالحوار العلني مع الإدارة الأميركية، في الأقل على مستوى الفريق الدبلوماسي المرافق له، أو على مستوى دور القيادات الدولية التي سيلتقيها على هامش الجمعية العمومية، في مقدمتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
لذلك وبناء على هذا التقدير، فإن منظومة السلطة في إيران، لا شك في أنها أخذت هذا الاحتمال في اعتبارها، من خلال الشروط التي وضعتها لأي حوار ممكن أو انفتاح محتمل وكشف عنها بزشكيان في كلامه. وهي شروط مدعومة أو مبنية على ما تعتقده هذه المنظومة من تقدم حققته في المعادلات السياسية والجيوستراتيجية على المستوى الإقليمي التي أسهمت حرب غرة في تعزيزها، إضافة إلى احتفاظها بورقة ابتزاز تستخدمها بوجه الإدارة الأميركية المتمثلة في حق الرد على عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية على أراضيها وما يعنيه ذلك من انتهاك لسيادتها وأمنها القومي.
فالعودة لأجواء اتفاق عام 2015 يعني بالنسبة إلى إيران عدداً من الثوابت لا بد من أن تعود الولايات المتحدة للاعتراف بها وتفعيلها من جديد، في مقدمتها الاعتراف بالنظام الإيراني والتخلي عن أي جهود من أجل زعزعة استقراره أو المساعدة في الإطاحة به، وهو مطلب عاد إلى الواجهة بعد الأحداث التي شهدتها إيران في أعقاب مقتل الفتاة مهسا أميني التي تمر ذكرى مقتلها الثانية خلال هذه الأيام، وهي الأحداث التي وضعت النظام أمام تحدي الحفاظ على استمراريته وبقائه، بخاصة في ظل الدعم الإعلامي والسياسي الذي قدمته العواصم الدولية لهذا الحراك ومطالبه وما فرضته من سلسلة عقوبات اقتصادية وسياسية جديدة على طهران.
وإشارة بزشكيان إلى موضوع القواعد الأميركية المنتشرة في المحيط الجغرافي لإيران تعني أن النظام ما زال ينظر إلى هذا الوجود على أنه تهديد كامن ضده، بالتالي فإن طهران لا تزال عالقة في معضلة الحصول على ضمانات أميركية بعدم استهدافها، أو فتح حرب ضدها. وهذه الضمانات تحولت إلى مطلب ملح خلال الأشهر الأخيرة، تحديداً منذ عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وتمسك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتحميل إيران المسؤولية عن هذه العملية وتداعياتها التي هزت أسس النظام الإسرائيلي ومشروعه الإقليمي.
لا شك في أن إشارات أميركية إيجابية وصلت إلى القيادة الإيرانية بعدم وجود رغبة أميركية في توسيع دائرة النار والتوتر باتجاه حرب إقليمية أو شاملة، أولاً من خلال تأكيد واشنطن على عدم وجود مؤشرات إلى تورط طهران في دعم عملية “حماس”، وجولات الحوارات غير المباشرة التي جرت بين الطرفين من أجل التوصل إلى توافق حول رؤية مشتركة لوقف الحرب في قطاع غزة، وأخيراً والتي يمكن اعتبارها الإشارة الأوضح التي صدرت من بغداد والمتعلقة بالاتفاق بين الجانبين الأميركي والعراقي على آليات انسحاب قوات التحالف الدولي من العراق بداية سبتمبر (أيلول) 2025، وهو تطور يصب في إطار الاستراتيجية التي أعلنها المرشد الإيراني في ديسمبر (كانون الأول) 2020 بالعمل على الانسحاب الأميركي من غرب آسيا، تحديداً العراق وسوريا كردّ على اغتيال قاسم سليماني.
بزشكيان يذهب إلى نيويورك حاملاً طموحات ورغبة كبيرة في كسر الجمود الحاصل في أزمة إعادة بناء الثقة المفقودة بين بلاده والولايات المتحدة والتي تؤسس إلى مسار جديد من العلاقة بينهما وتفرض تداعياتها على معادلات الشرق الأوسط، مما لا يريده أو يرغب فيه نتنياهو، بخاصة في ظل عدم قدرته أو عجزه عن التوصل إلى نتائج حاسمة في الحروب التي يخوضها على الجبهتين الجنوبية مع غزة والشمالية مع لبنان، بينما سيكرس بزشكيان وفريقه، مدعوماً من المرشد الأعلى، جهوده من أجل التوصل إلى تفاهمات واضحة مع واشنطن لإبعاد شبح الجهود التي تراود نتنياهو لتوسيع دائرة الحرب والتوتر في الإقليم وتوريط طهران في حرب مباشرة تفرض على واشنطن الدخول فيها، بالتالي تطيح بمساعي التهدئة والتفاهم وتسقط المعادلة التي يحاول كلا الطرفين، واشنطن وطهران، إرساءها في العلاقة بينهما والقائمة على التناقض بين طرفيها، كعدوين حميمين أو صديقين لدودين.
نقلا عن اندبندنت عربية