أهم الأخبارمقالات

لبنان في الفخ التاريخي المطبق

أنطوان الدويهي

تحيط بالمسألة اللبنانية مجموعةٌ واسعةٌ من المفاهيم الخاطئة، تبدأ باعتبار أنَّ الكيانَ اللبناني قد رأى النور مع ولادة «لبنان الكبير» في عام 1920، ولا تنتهي عند اعتبار «الصيغة اللبنانية»، المشار إليها بـ«الطائفية السياسية»، السبب الرئيسي لخراب لبنان وانهياره… وتعمّ هذه المفاهيم والكثير سواها، مما لا صحة له، المكان اللبناني، الذي أضحى كـ«برج بابل»، وسط تفجر النزاعات والتهاب المشاعر وتصاعد الأحقاد، التي أججتها وسائل التواصل الاجتماعي الفالتة على غاربها. وقد أدّت هذه البلبلة الفكرية والشعورية العارمة إلى تغطية الواقع اللبناني بحجب كثيفة تحول دون رؤيته على حقيقته، وتنتفي معها سبل علاجه.

سنحاول في هذه المقاربة جلاء بعض هذه الحجب وتحديد الواقع اللبناني الحالي، صيف 2023، على حقيقته، مبتعدين عن المقاربة السياسية البحتة، ومستندين إلى النظرة التاريخية والسوسيولوجية والأنتروبولوجية، القادرة على الإحاطة بالظواهر المجتمعية بموضوعية من مجمل جوانبها.

بين المطالبين باللامركزية الموسعة، الإدارية أو المالية، أو الاثنتين معاً، والداعين إلى الفيدرالية أو الكونفيدرالية وغيرها، وإلى تبني الحياد، من جهة، والذين يجابهون هذه الدعوات بشدة، من جهة أخرى، كونها تؤدي في نظرهم إلى تفكيك وحدة البلاد وجرها إلى الحرب الأهلية، وبين الدعوات المتوالية من هنا وهناك إلى تطبيق اتفاق الطائف، كل طرف على هواه، والإسراع في انتخاب رئيس للجمهورية يكون باباً للحل، والتساؤل عن العجز المدهش عن تنفيذ أي إصلاح على الرغم من الأزمة الخانقة… من الغريب، وسط هذه المتاهة، عدم رؤية الواقع البيّن التالي: إن لبنان هو بلد مقسّم. لا تقوم فيه «دويلة» ودولة، كما يكرر أخصام حزب الله. بل تقوم فيه دولتان بالمعنى الفعلي للكلمة:

– الدولة الشيعية في لبنان، من جهة، الممتدة أساساً على مناطق الشيعة في الجنوب والبقاع، وعاصمتها الضاحية الجنوبية. لها جيشها وتركيبتها العسكرية الضاربة، ولها بناها الآيديولوجية والدينية والسياسية والإدارية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والمالية والتربوية والصحية، ولها توجهاتها التكتيكية والاستراتيجية الدقيقة، وهي تسيطر على جانب كبير من الحدود مع سوريا، وعلى كامل الحدود البرية مع الكيان الصهيوني، وعلى جانب مهم من الحدود البحرية مع هذا الكيان، فضلاً عن نفوذها الحاسم في مرفأ بيروت ومطارها. وهذه الدولة موصولة عضوياً بالدولة الإسلامية الإيرانية، على مذهب ولاية الفقيه، وواقعة ضمن استراتيجياتها الإقليمية والدولية، تتلقى منها المساعدات العسكرية والمالية التي لا حدود لها، والدعم البشري النوعي المؤثر في مختلف الاختصاصات العسكرية والمدنية (لا ينفي ذلك وجود أصوات ومجموعات شيعية غير موافقة على هذا التوجه، لكنها غير مؤثرة في الواقع).

– دولة لبنان الكبير، من جهة أخرى، أو في تحديد أدق، ما بقي منها، الممتدة أساساً على مناطق المسيحيين والسنة والدروز، التي تطغى عليها علامات الضعف والتفكك.

ما طبيعة العلاقة بين هاتين الدولتين داخل المدى اللبناني؟ وما وجهة علاقتهما المستقبلية؟ خصوصاً في ظل الانهيار اللبناني الشامل الذي لا حاجة لوصفه، وفي ظل نزيف الهجرة الذي لا يتوقف، ووجود أكثر من مليوني نازح ولاجئ، بمعدل تكاثر مرتفع، لا حل مرتقباً لوضعهم في ظل الأمر الواقع نفسه.

يبدو الكيان اللبناني، صيف 2023، قابعاً في فخ تاريخي مطبق، لم تعد الأطراف الداخلية، القوية منها أو الضعيفة، قادرة على إخراجه منه.

وعلى الرغم من هذه الاستحالة، ثمة تفاعل كثيف بين الدولتين القائمتين في لبنان المقسّم، مع اختلال بالغ في القدرة على التأثر والتأثير المباشرين، يصب في صالح الدولة الشيعية.

وقبل أن نخوض في تبيين استراتيجية الدولة الشيعية ودولة لبنان الكبير، الواحدة تجاه الأخرى، لا بد من الإشارة إلى المعطى الأساسي التالي، الغائب عن النقاش: إن الدولة الشيعية في لبنان ليست كياناً مؤقتاً، بل هي دولة نهائية في مفهوم من تولوا بناءها ويتولون إدارتها.

صحيح أن المنهج التاريخي والسوسيولوجي والأنتربولوجي يبين لنا أمرين أساسيين: الأمر الأول أن الثابتة الوحيدة في مسار المجتمعات البشرية هي أن لا شيء ثابت، وأن كل المجتمعات بلا استثناء، حتى الأكثر جموداً بينها، خاضعة للتحول الدائم. الفارق فقط هو في بطء حركة التحوّل أو سرعتها، والأمر الثاني أن كل تحول مجتمعي هو نتاج تفاعل بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية.

من ضمن هذين الأمرين ونسبيتهما، نصف الدولة الشيعية في لبنان بالنهائية، على المديين القريب والأبعد.

وهي لا يمكن أن تكون إلا نهائية في منظور بُناتها وقادتها، بعد استثمار طهران عشرات (بل ربما مئات) مليارات الدولارات في حركة بنائها منذ عام 1982 حتى اليوم، وبعد نجاحها في الحفاظ على نقاوتها المذهبية، ونجاحها في تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، ونجاحها في دعم النظام السوري الموالي لإيران، وأدوارها الفاعلة الكثيرة هنا وهنالك في الشرق الأوسط والعالم، والتضحيات البشرية الجسيمة التي قدمها المجتمع الشيعي في لبنان في سبيلها، ووصول إيران عبرها، جيوسياسياً وعسكرياً، إلى حدود الكيان الصهيوني، البرية والبحرية، ووصولها عبرها إلى البحر المتوسط المفتوح على الغرب، وتكوينها حشداً بشرياً واسعاً صلباً، يؤيد قراراتها بلا نقاش ولا تردد، وما أصابته من نجاحات بارزة في الهيمنة على دولة لبنان الكبير.

ما استراتيجية الدولة الشيعية تجاه لبنان الكبير؟ منذ انطلاق حزب الله قبل نحو أربعين عاماً، ثمة استراتيجيتان متلازمتان على الدوام: استراتيجية بناء وتدعيم الدولة الشيعية في حد ذاتها، من جهة، واستراتيجية التسرب إلى مؤسسات دولة لبنان الكبير والسيطرة عليها، من جهة أخرى، بحيث تتحول هذه الدولة في نهاية المطاف إلى ما يشبه الهيكل العظمي الذي يرتدي ثوباً تنكرياً متعدد الألوان، يمكن الاختباء خلفه.

مقابل ذلك، لا توجد أي استراتيجية لدولة لبنان الكبير في التعامل مع الدولة الشيعية، على امتداد هذه المرحلة بكاملها.

فعلاقة التفاعل والتأثير المتبادلين بين هاتين الدولتين شديدة الاختلال، بسبب الاختلاف العميق في طبيعتهما.

ذلك أن الدولة الشيعية هي في جوهرها كيان أحادي لا يحتمل أي تعددية في أي مجال، وهو كيان عسكري وديني صارم في ضبط مجتمعه وتوجيهه، على الرغم من ثنائية حزب الله – حركة أمل، المضبوطة بشكل محكم.

أما دولة لبنان الكبير (أو ما بقي منها) فتعددية بطبيعتها، تقوم فيها الجماعات المسيحية والسنية والدرزية، وتقوم داخل كل من هذه الجماعات تعددية لافتة، يهزها الكثير من الصراعات والتجاذبات والتناقضات، وتدير هذا الكيان سلطة ومؤسسات رسمية هشّة ومنهكة.

فمن الطبيعي، في هذه الحال، أن تصيب الدولة الشيعية الكثير من النجاح على مرّ السنين في تحقيق استراتيجية تدعيم ذاتها بوصفها دولة، وفي تحقيق استراتيجية التسرب إلى دولة لبنان الكبير والسيطرة على مؤسساتها. ومن الطبيعي ألا تستطيع دولة لبنان الكبير تحقيق أي اختراق، مهما كان بسيطاً، داخل الدولة الشيعية. وهي في أي حال لا تملك أي استراتيجية، لا لتدعيم ذاتها، ولا للاختراق.

سنرى في وقت آخر كيف استطاعت الدولة الشيعية، خلال الأربعين عاماً المنصرمة، الوصول إلى هذه الدرجة من قوة التركيب، ومن السيطرة على مؤسسات دولة لبنان الكبير ومقدراتها، لنطرح الآن السؤال المصيري التالي: هل من سبيل للخروج من الفخ التاريخي المطبق الذي وصل إليه الوضع اللبناني؟

نقلا عن الشرق الاوسط

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى