مقالات

في ذكرى إعدام الصدر: “جعفر رئيس وزراء العراق” ومهمّة التخلّص من تركة “مقتدى”

 
محمد السلطاني
 
قبل أن يعرف العراقيون والعالم، مقتدى الصدر ومسلحيه، لم يسبق أن ارتبط اسم عائلة “آل الصدر” في ذاكرة شعوب المنطقة بمشاهد القتل والانتهاكات وحلق الشعر، وإشهار الهراوات، والتهجير الطائفي و”المزاجي”، والخضوع لإيران، وابتزاز المستثمرين والفساد، ومطاردة الحريات الشخصية، وإقامة المحاكم الشرعية، وادعاء تمثيل الرب على الأرض. فاسم العائلة الممتدة من “قمّ” الإيرانية، إلى جبل عامل اللبناني، ارتبط تاريخياً بالتجديد الديني والفكري ودعوات التعايش وإعلاء الوطنية منذ مئات السنين… وصولاً إلى “لحظة صدفة” أنتجت مقتدى الصدر عام 2003.
 
أما اليوم، فيبدو أن الأسرة، والعراق، على موعد مع فصلٍ جديد مُختلف، بعد ترشيح محمد جعفر الصدر لرئاسة وزراء العراق.
 
آل الصدر في المنطقة… و”مقتدى”
ويستذكر طيفٌ من مسيحيي لبنان بإكبار مواقف موسى الصدر أثناء الحرب الأهلية، فيما يتردد صدى التسجيل الصوتي الذي أورثه محمد باقر الصدر – وهو يقرّع جشع الحكّام – كلما ظهر سياسي يزعم الوصلَ بالصدر – كمليونيرات حزب “الدعوة الإسلامية” – وقد ملأ حساباته بملايين الدولارات.
 
“مقتدى” كان “إصداراً غير مألوف” في تاريخ الأسرة.
 
لا يُشبه مقتدى الصدر مسار أسلافه، ولا يشبهونه، وقد قارَب بشكل كبير وصفَ ابن خلدون للجيل الأخير في الدول، كما في نصّ مقدمته “يتوهّم أن ذلك البنيان لم يأت بعناء ولا يعلم كيف كان وجودُه، ويتوهم أنه النَسَب فقط، ويرى أن له فضلاً على أهل عصبيته فيحتقرهم ويحتقرونه فتنشأ العداوات وينهدم البناء (…) ويحاول إظهار القوة من خلال احتكار السلاح لقمع الناس إذا أرادوا الثورة ومواجهة استئثار النخبة الحاكمة للسلطة والثروة”.
 
جعفر الصدر مرشحاً رسمياً للمرة الأولى
بعد تردد دام 5 أشهر، أعلن التحالف الثلاثي بين التيار الصدري و”الحزب الديموقراطي الكردستاني” و”تحالف السيادة” – بزعامة كل من مقتدى الصدر ومسعود بارزاني ومحمد الحلبوسي وخميس الخنجر – عن نفسه رسمياً، تحت اسم تحالف “إنقاذ وطن”. ودفعةً واحدة قدّم مرشحيه لشغل منصبي رئاسة الجمهورية والوزراء، دون أشواط المباحثات والتلكؤ قبل التسمية، وهو السلوك المألوف في التجارب السابقة، ولم يكن مفاجئاً أن يطرح التحالف اسم محمد جعفر محمد باقر الصدر مرشحاً لاعتلاء كرسي رئاسة الحكومة المقبلة.
 
ويهدف الصدر من طرح اسم “جعفر” إلى “إقفال المعادلة” بوجه خصومه، فمرشح رئاسة الوزراء، هو ابن المرجع محمد باقر الصدر، الذي يقول قادة “الدعوة الإسلامية” إنه الأب الروحي للحزب الأكبر داخل تحالف “الإطار التنسيقي”، الممثل الأوضح لمقرّبي إيران، والساعي لعرقلة مشروع الصدر.
 
وتماماً كما أراد مقتدى الصدر، شكّل طرح اسم “جعفر” حرجاً كبيراً لحلفاء إيران، فلا أحد منهم يريد التورط بالتحفظ على اسم نجل المرجع الذي أعدمه صدام حسين مع شقيقته، ولذا فإن جميع التصريحات الصادرة من الإطار، شددت على أن “جعفر” ليس محلّ الخلاف، بل الطريقة التي يصل عبرها إلى سدّة الحكم، إذ يطالب حلفاء إيران بأن تكون تسمية “جعفر” مرشحاً لرئاسة الوزراء ممهورة بختم “تحالف شيعي” يضم كل الكتل الشيعية، وليس عبر تحالف ثلاثي عابر للمكونات يضم الكرد والسنة كما يسعى مقتدى الصدر.
 
مَن هو جعفر الصدر؟
كثّفت وسائل الإعلام نشر السيرة الذاتية بعنوان “مَن هو جعفر الصدر”، ولادته ونشأتُه وحياته، بالشكل الكلاسيكي المعهود، لكنّ ما قد يكون أكثر أهميةً من تلك المعلومات، هو التعرّف على الهوية الفكرية والسياسية للمرشح الأبرز، والاقتراب من ماهيّته.
 
ينتمي جعفر كخاله موسى الصدر إلى اتجاه يسخر من التشدد الديني حين يُفضي إلى خدش التعايش بين شعوب الدول. يُكثر التردد إلى لبنان، للقاء فروع عائلته لاسيما خالته رباب الصدر.
 
وقد عُرف عنه عدة مواقف جريئة مُعلنة، كمطالبته بالإفراج عن طارق عزيز، وزير خارجية نظام صدام حسين، ورفضه استخدام اسم أبيه لإعدام عزيز، والتشكيك بسلامة الاجراءات القضائية، وهي تصريحات أثارت قبل أكثر من عقد جدلاً كبيراً، فالطبقة السياسية الشيعية الحاكمة وفصائلها، رفضت الاعتراف طيلة سنوات بأن تعسفاً ومظالمَ كبيرة تجري في الزنازين والمحاكم التي تسيطر عليها تلك القوى.
 
غادر “جعفر” القائمة الانتخابية التابعة لرئيس الوزراء المقرب من إيران نوري المالكي، وأعلن أسباب اعتزاله برسالة شهيرة نشرها عبر الإعلام الأوروبي.
وينتمي الرجل إلى المزاج المتذمّر من الانتهاكات الجسيمة والجرائم التي تسببت بها أو سكتت عنها الطبقة السياسية الشيعية التي رفعت طيلة عقدين اسم أبيه محمد باقر الصدر شعاراً لحكمها.
 
وفي شأن العلاقات الخارجية، لا يستخدم “جعفر” العبارات المخاتلة، بل يعبّر عن رأيه بوضوح، حين يقول إن أولوية العراق هي في بناء علاقاته مع محيطه العربي، ثم الدول الأخرى، كتركيا وإيران، ولم يُمانع في مجالسة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، أو مصافحة ملكة بريطانية إليزابيث الثانية، فهو محصنٌ بنسله، وليس معنياً بالمزايدات التي تتراشقها زعامات الفصائل الشيعية في ما بينها للتنافس على خطب ود المشغل والممول الإيراني.
 
جعفر الصدر وإيران
بعد اغتيال المرجع محمد صادق الصدر، مطلع العام 1999، غادر “جعفر” إلى إيران، خشية إقدام نظام صدام على تصفيته، باعتباره أحد أواخر النسل الصدري.
في إيران، لم يكن “حرس الثورة” ومرشدهم مرحبين بظهور سليل جديد للأسرة الصدرية.
 
لا ينظر علي خامنئي وتياره بارتياح إلى ظهور أُسر مؤثرة في القرار الشيعي من خارج منظومة ولاية الفقيه الإيراني.
تعرض جعفر الصدر لمحاولة اعتقال فور وصوله إلى إيران أواخر تسعينات القرن الماضي، وقد طوّق عدد من أبناء الجالية العراقية في “قم” منزله في منطقة “دور شهر” لمنع اعتقاله.
 
تسبب وجود “جعفر” بتوتر العلاقة بين رئيس مجلس القضاء الإيراني آنذاك محمود الشاهرودي – الذي يحمل جميل تتلمذه على يد محمد باقر الصدر – وبين مرشد الثورة علي خامنئي الذي حاول التخلص من جعفر الصدر أو تقييده.
 
وقد ورد اسم “جعفر” ضمن “قائمة عملاء” اتهمتهم سلطات خامنئي بالتخابر مع “السفارة الدنماركية” بالتعاون مع رئيس الجمهورية الإيراني آنذاك محمد خاتمي الذي كان يخوض مواجهة مع “حرس الثورة”… وتهمة “العمالة للسفارات” عبارةٌ مستهلكة أورثتها خلايا الحرس الثوري إلى أتباعها في فصائل “الحشد الشعبي”، ولا يزال أتباع الأخير يستخدمونها ضد مناهضي النفوذ الإيراني في العراق، رغم مرور أكثر من عقدين على اختراعها، فيما استعار أتباع “مقتدى” المفردات ذاتها أثناء هجومهم على متظاهري تشرين الأول 2019.
 
عاد “جعفر” إلى العراق فور سقوط نظام صدام حسين وبقي متردداً بين بغداد وبيروت، قبل أن يتم “ترتيب” منصبه الدبلوماسي، سفيراً لبغداد لدى لندن صيف العام 2019.
 
“جعفر” و”مقتدى” ونفوذ إيران في العراق
بعد اغتيال قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني قاسم سليماني، في عملية جوية أميركية أودت جانبياً بحياة نائب رئيس “الحشد الشعبي” جمال جعفر، الذي بقي يحمل الاسم المستعار “أبو مهدي المهندس”، وجه مقتدى الصدر أتباعه باقتحام ساحات التظاهرات المناوئة لهيمنة الفصائل الإيرانية على القرار العراقي، وانهال أتباع “مقتدى” ذوو “القبعات الزرق” سيئو الصيت، على المتظاهرين بالضرب والاعتداء بشكل مفاجئ، فيما اعتُبر حينها محاولةً من “مقتدى” لمغازلة خامنئي وتقديم نفسه كوريث ممكن للمهندس.
 
علِم “مقتدى” لاحقاً أنه فشل بنيل ثقة خامنئي رغم الدماء التي أراقها أنصاره في النجف وبغداد وكربلاء، لكن “جعفر” أصدر لحظة الاعتداءات “المقتدائية” بياناً مقتضباً، هاجم فيها “القبعات الزرق”، كما كتب رسالة شديدة اللهجة، وبّخ فيها “مقتدى” وذكّره بأن “آل الصدر كانوا عبر التاريخ ضحايا الطغاة، ولم يكونوا هم الطغاة”.
 
ليس ثمة تشابه بين “مقتدى” و”جعفر” يقول المقربون من الشخصيتين، لكن الأول اضطر إلى تقديم الثاني، ولم يُفضّله.
 
شائعات الأهلية والصحة النفسية
فور إعلان ترشيح “جعفر” لرئاسة الوزراء، سرّبت صفحات تواصل اجتماعي تقريراً طبياً يزعم تعاطي المرشح أدوية مضادة للاكتئاب، كما تحدث آخرون عن معاناته من اضطراب “ثنائي القطب”.
 
اختلف المحللون حول جهة التسريب، اتهم البعض خلايا الفصائل الإيرانية، بينما ذهب آخرون إلى علاقة حلقات رئيس الوزراء المنتهية ولايته والطامح للتجديد مصطفى الكاظمي بالقضية.
 
يقول مقرّبون عايشوا “جعفر” إنه لا يعاني من أية مشاكل عقلية، وأنه يتحلى بالحزم والزهد بالمناصب، والقدرة على مغادرة “الحفلة” حين يصبح الوجود فيها غير مجدٍ، ويستشهدون باستقالته من منصبه في البرلمان عام 2010.
 
تقول شخصيات عايشت “جعفر” أن ما يجري تداوله يتعلق بتبعات الضغوط النفسية التي تعرضت لها عائلة محمد باقر الصدر جرّاء تضييق نظام صدام حسين، بعد إعدام المرجع أواخر السبعينات.
 
ويجادل كثيرون رداً على التشكيك بأهلية “جعفر”، عبر التساؤل عن مدى أهلية وخبرة جميع الذين تسلموا منصب رئاسة الوزراء، ابتداءً بأياد علاوي وابراهيم الجعفري، ووصولاً إلى مصطفى الكاظمي، الحاصل على شهادة الدراسة المسائية من كلية أهلية عراقية، لا تزال رصانتها مثار جدل.
 
المهمّة
تباهت القوى الشيعية طيلة عقدين، بأن تاريخ إعدام محمد باقر الصدر في التاسع من نيسان (أبريل)، يصادف تاريخ سقوط نظام صدام حسين، وعدّته دليلاً على “عدالة ماورائية” ما.
وقد تأسست كل الجرائم التي تورطت بها الفصائل المسلحة إيرانياً، لاسيما فصائل مقتدى الصدر، على فكرة القصاص لضحايا نظام صدام حسين، وعلى رأسهم محمد باقر الصدر، والد المرشح لرئاسة الوزراء.
 
لا ينظر “جعفر” بارتياح لسلسلة الفشل والمظالم والدماء التي أسالتها الجماعات الشيعية في العراق بعد العام 2003، وخصوصاً أن معظم الفصائل المتورطة لا تزال تستتر باسم والده كقوات “جيش المهدي” على اختلاف تسمياتها الجديدة، أو خرجت منشقةً من عباءة الميليشيات التي شكلها مقتدى الصدر، كـ”عصائب أهل الحق”، و”النجباء” وغيرهما.
 
سيكون أمام “جعفر” مهمة تصحيحية، فالتاريخ كتب الكثير عن حقبة مقتدى الصدر وخصومه، وكل ما تم توثيقه لا ينتمي بأيٍ من الأشكال إلى ما كان يردده المرجعان محمد صادق الصدر، وقبله محمد باقر الصدر.
 
أمام الصدر الإبن، مهمة جسيمة، وهي محو حقبة “مقتدى” من ذاكرة العراقيين وإنهاء علاقتها بالحالة الصدرية، واستبدالها بعهد يعلي قيم العدالة والقانون، لا الهراوات والرشاشات والابتزاز وتعبئة المدنيين في صناديق السيارات على طريقة “جيش المهدي”.
 
يشعر “جعفر” أن إساءة كبيرة نالت عائلته “المضحية”، بسبب سلوكيات “مقتدى” ومسلحيه، ويقول مقربون منه في لندن، إنه يُظهر للمرة الأولى حماسة وجديّة لتولي منصب رئاسة الوزراء، وكما لم يفعل طيلة العقدين الماضيين، وقد وضع نصب عينيه إنقاذ ما يُمكن إنقاذه من سمعة عائلته.
 
ويشعر “جعفر” بالذعر من التورط بالدم أو المال “الحرام”، أما “مقتدى” فيعتبر الأمر “قضايا جانبية”، ورغم أن الأخير قد رشّح الأول للمنصب، فإنه لا يخفى على كل المطلعين، أن البلاد أمام اتجاهين مُختلفين، وأن “مقتدى” اضطر للدفع بـ”جعفر” لضمان إحراج خصومه، وأنه كان يفضل الدفع بشخصيات “مطيعة” تشبه “مقتدى” مثل حاكم الزاملي وحسن الكعبي وضياء الأسدي ونصار الربيعي، وغيرهم، بدل التورط بدعم شخصية لا تؤمن بالدم، مثل “جعفر”.
 
“العوائليات”
بالحديث عن العائلة، لا يمكن النظر إلى حكومة العراق 2022، دون ملاحظة أنها الحكومة المنتخبة الأولى بعد حراك ثوري غير مسبوق اندلع عام 2019، ولذا فإن كثيراً من الأوساط المدنية والمتظاهرين، لا ينظرون بارتياح إلى تغوّل “العوائلية” في البلاد، من شمالها حيث عائلتا “بارزاني وطالباني” وانتقالاً إلى غربها حيث عوائلية “الحلبوسي” الناشئة، وصولاً إلى الوسط والجنوب حيث يحاول مقتدى الصدر ترسيخ هيمنة عائلته على أعلى منصب في الدولة العراقية.
 
لذا، سيكون أمام “جعفر” مهمّة كبيرة، تتعلق بالحوار والتواصل مع المجتمع المدني المتخوّف من فكرة التحالف الثلاثي العائلي بين “آل الصدر وآل بارزاني وآل الحلبوسي”.
 
لا يُظهر “جعفر” اهتماماً بالرأي العام، حتى أنه لم يغادر عاصمة الضباب ويتجه إلى العاصمة التي يستعد لحكمها، بغداد، حتى الآن. لم يجرِ لقاءات مع شباب العراق ولا حتى كهوله.
 
يصفه خصومه بأنه “كسول” وضعيف في التواصل الاجتماعي، وفيما لو كان “جعفر” جاداً في السعي إلى اعتلاء عرش العراق، وتصحيح مسارٍ ورّط به “مقتدى” سجل عائلة الصدر، سيكون على المرشح الأبرز تسليم مهامه الدبلوماسية إلى أقرب نائب له في مبنى سفارته في لندن، والتحليق إلى بغداد، والبصرة والموصل والسليمانية والنجف والأنبار… للقاء شباب العراق، وإثبات أنه ليس جزءاً من مشروع استنساخ عائلة صدام حسين “آل بو ناصر” الذي يثير مخاوف العراقيين.
 
– نقلا عن “النهار العربي”

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى