أهم الأخبارمقالات

طهران وواشنطن والسير بين النقاط

لا شك في أن النظام الإيراني ومنظومة السلطة دخلا دوامة البحث عن الإستراتيجيات الأقل ضرراً للتعامل مع الإدارة الجديدة للرئيس ترمب

 

حسن فحص

للمرة الأولى يدخل النظام الإيراني في مفاوضات غير مباشرة ظاهرياً ومباشرة عملياً، من دون ضجيج داخلي أو صراع وجدل بين الفريق المؤيد لها والآخر المعارض لها، مما يؤكد حقيقة أن جميع الأطراف إما باتت تدرك دقة المرحلة التي يمر بها النظام والتحديات التي قد تكون وجودية، وإما أن السلطة العليا في النظام التي اتخذت خيار التفاوض قد مارست دورها في إسكات الأصوات المعارضة، وهدأت من اندفاع الأصوات المؤيدة بانتظار ما ستكشف عنه الجلسات الأولى العلنية عن معطيات إيجابية أو سلبية.

ولا شك في أن الدافع أو المحرك الذي سرع في وصول النظام في طهران إلى طاولة التفاوض لا يكمن في حجم الأزمات الداخلية المتفاقمة، على الصعيدين الاقتصادي والمعيشي، بل الأخطار التي قد تنتج منها وإمكان أن تفجر صراعاً داخلياً قد يشكل أرضية خصبة لتحريك الحساسيات القومية والمذهبية، وما ينتج منها من حروب داخلية سبق وأن حذر منها المرشد الأعلى قبل أسابيع خلال صلاة عيد الفطر.

إلا أن العامل المهم والمحرك الأبرز الذي لا يمكن التجاوز عنه أو إهماله، والذي أسهم في بلورة القناعة الإيرانية بضرورة التفاوض، لا يبعد عن هدير القاذفات الأميركية الإستراتيجية “بي-2″ و”بي-52” في قاعدة دييغو غارسيا في المحيط الهندي، وعلى مرمى صاروخ من الأراضي الإيرانية، إضافة إلى هدير حاملات الطائرات وقوافل المدمرات المحملة بالصواريخ في المياه الدولية المحيطة في إيران.

لا شك في أن النظام الإيراني ومنظومة السلطة قد دخلا دوامة البحث عن الإستراتيجيات الأقل ضرراً للتعامل مع الإدارة الجديدة للرئيس دونالد ترمب فور إعلان فوزه أو قبلها بقليل عندما أيقنت خسارة منافسه الديمقراطي جو بايدن، وهي جلسات تزامنت أيضاً مع اتضاح مدى الخسائر التي لحقت بالنفوذ والقوة الإيرانية في الإقليم بعد الضربة التي تعرض لها “حزب الله” في لبنان، وانهيار النظام السوري وهرب رئيسه بشار الأسد، مما يعني أن هذه القيادة أخذت بالاعتبار عينه حجم الضعف الذي لحق بأوراق الضغط التي تمتلكها، وبالتالي بات عليها حصر تفكيرها بالقدرات التي تملكها داخل حدودها الجغرافية وما يدور فيها من صراعات وإمكان انفجار داخلي.

ولم يكن خيار الذهاب إلى التفاوض هو المفضل والمحبذ للمرشد الأعلى والفريق المحيط به الذي يملك طموحاً توسعياً ويعمل على إبقاء المعركة خارج حدوده، إلا أن تضافر كثير من المعطيات وحاجة النظام والسلطة إلى إبعاد شبح الحرب المباشرة، كانا الدافع وراء حسم الخيارات بضرورة إبعاد الحرب عن حدوده وترجيح تجرع قدر قليل من السم قبل أن يكون مجبراً على تجرع هذه الكأس كاملة دفعة واحدة.

والرغبة الإيرانية في الابتعاد من دائرة الحرب والخسارة الكاملة تلاقت مع رغبة الرئيس الأميركي بالتوصل إلى حل للأزمة مع إيران بالطرق السلمية والدبلوماسية التي تنسجم مع الإستراتيجية التي أعلنها بداية رئاسته، والتي شكلت السلم الذي استخدمه النظام في طهران لوضع خريطة طريق تسمح بملاقاة رغبة ترمب في منتصف الطريق، ويمكن القول إن جلسة المفاوضات غير المباشرة التي استضافتها العاصمة العمانية مسقط لا تعتبر الجلسة الأولى بين الطرفين، وهي لم تكن نتيجة لجولتي تفاوض غير مباشرة من خلال الرسائل المتبادلة بين الرئيس والمرشد، بل جاءت تتويجاً لمسار بدأ بعيداً من الأنظار خلال الأسابيع الأولى لوصول ترمب، وعلى هامش اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة التي شارك فيها الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وقدم خلالها خريطة الطريق لمستقبل العلاقة بين إيران و”العدو الأميركي”، ثم اللقاء الذي جمع مندوب إيران الدائم في الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني وممثل الرئيس إيلون ماسك في نيويورك.

الإهمال الإيراني لكل الأطراف التي عرضت أو أعلنت استعدادها لعب دور الوسيط بين طهران وواشنطن لم يكن سوى ترجمة لقناعة وصل إليها المرشد الأعلى بضرورة الابتعاد من السياسات القديمة في التفاوض غير المباشر، والتي تحولت إلى ورقة يستخدمها كل طرف وسيط من أجل تحسين شروطه في العلاقة مع الإدارة الأميركية، ومن هنا كان الموقف الإيراني غير المعول على إمكان لعب كل من روسيا والـ “ترويكا” الأوروبية دوراً محايداً في الوساطة مع واشنطن، فكان خيار العودة للوسيط العُماني الذي لا يملك مصالح خاصة تتعارض مع مصالح طرفي التفاوض، بخاصة أن مسقط تملك علاقات مستقرة معهما لا مكان فيها للتعارض أو التصادم، وما كشفت عنه جلسة التفاوض التي استضافتها مسقط عن أن كلا الطرفين أبدى حرصاً على عدم إحراج بعضهما الآخر، فالجانب الأميركي أبدى تفهماً للمطلب الإيراني بالتفاوض غير المباشر.

وفي المقابل أبدى الجانب الإيراني تجاوباً مع رغبة الرئيس ترمب في التفاوض المباشر، فكان اللقاء السريع ومدة 10 دقائق بين رئيسي الوفدين الأميركي ستيف ويتكوف والإيراني عباس عراقجي بعد جلسة غير مباشرة استمرت نحو ساعتين ونصف الساعة، ووصفُ نتيجة المفاوضات بأنها إيجابية وبناءة جاءت نتيجة حصرها في جدول أعمال محدد وواضح يرتبط بكيفية السيطرة الدولية على الأنشطة النووية الإيرانية، في مقابل خطة واضحة وخريطة طريق للتعامل مع مبدأ تخفيف العقوبات الاقتصادية عن إيران، والابتعاد الأميركي من مطلب تفكيك البرنامج النووي لم يكن طارئاً على جدول المفاوضات بل شكل واحدة من الرسائل التي وجهها سابقاً المندوب الأميركي ويتكوف، في حين أن طهران قدمت كثيراً من المغريات تتعلق بالرقابة الدولية طويلة الأمد، إضافة إلى فتح الأسواق الإيرانية أمام الاستثمارات الاقتصادية الأميركية المباشرة، والتي كانت في السابق تعتبر أقدس المحرمات لدى النظام.

وقد يواجه طرفا التفاوض تحدياً حقيقياً خلال المرحلة المقبلة، بخاصة في حال الإطالة في التفاوض، والتباعد في مواعيد الجلسات واللقاءات، والتأخير في الانتقال إلى التفاوض المباشر، مما سيسمح للأصوات المعارضة داخل الإدارة الأميركية، وتحديداً الخارجية والأمن القومي المستبعدين من التفاوض، والتي تعارض أية تسوية تسمح لإيران بالاستمرار في نشاطها النووي، وهي أصوات قد تفتح الباب أمام الأصوات الإيرانية المتشددة التي ترفض مبدأ التفاوض مع الأميركي، سواء من منطلقات أيديولوجية أو مصلحية، إضافة إلى إمكان أن تلعب الأطراف الدولية المستبعدة من التفاوض، وتحديداً الدول الأعضاء في السداسية الدولية الراعية لاتفاق عام 2015 دوراً معرقلاً بدافع الحفاظ على مصالحها ومنع الادارة الأميركية من التفرد في صياغة التفاهم مع إيران على حساب دورها، ومن هنا يمكن فهم المبادرة الإيرانية باتجاه روسيا والصين لشرح الخطوة الإيرانية باتجاه واشنطن، وطمأنة هذين البلدين حول مستقبل العلاقة والمصالح المشتركة بينها، في حين قد تواجه الـ “ترويكا” الأوروبية أزمة في استعادة موقعها في التفاهمات على خلفية الجدل القائم بينها وبين ترمب حول كثير من الملفات، وإمكان أن تذهب إلى محاولة نسفها من خلال الدفع باتجاه مجلس الأمن لتفعيل “آلية الزناد” التي تسمح بإعادة تفعيل العمل بقرارات مجلس الأمن التي تفرض عقوبات دولية، وليس أميركية، على النظام الإيراني.

 

نقلا عن اندبندنت عربية

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى