أهم الأخبارمقالات

طابور خامس في بيت المرشد

 

طوني فرنسيس

لم تغير البعد ما يقارب ثلاثة أشهر على اندلاع الاحتجاجات ضد نظام الملالي في طهران يجهد قادة هذا النظام في تقديم روايتهم البديلة إنكاراً للحقيقة وتبريراً لاستمرار القمع الذي أودى بحياة نحو 400 مواطن، وأسفر عن اعتقال حوالى 30 ألف آخرين، يتعرضون للاضطهاد وبعضهم أعدم أو مهدد بالإعدام.

انتفاضة في نمط تفكير القيادة التي تستمر في وصف المنتفضين بالمشاغبين والعملاء و”الطابور الخامس”، بل استعانت بمن يسمون “إصلاحيين” في محاولة لاحتواء المعترضين، لكن الإصلاحيين اعترفوا أن الانتفاضة تتخطاهم وتستهدفهم أيضاً، ولم يعد الصراع بين محافظين وإصلاحيين، فثوار الشوارع والأقاليم سبقوا هؤلاء جميعاً ليقدموا نموذجاً مختلفاً عن انتفاضات سابقة كانت تستعمل في صراعات أهل السلطة وتحت عباءة المرشد.

يتفق كثيرون داخل إيران وخارجها، أن الاحتجاجات الجارية قد لا تهدد النظام في المدى القريب، لكن عدم تقديم المسؤولين أية بدائل سيزيد في الشرخ بين غالبية شعبية من أجيال ولدت بعد استيلاء الخميني على السلطة، ويزداد استياؤها من النظام الديني القمعي ونتائجه السياسية والاقتصادية، وبين أقلية دينية عسكرية أمنية متماسكة لن تتخلى بسهولة عن امتيازاتها.

في اعتقاد المراقبين، وبينهم كتاب في صحف إيرانية، فإن طهران دخلت منذ منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي في حالة اضطراب سياسي طويلة الأمد سيكون صعباً معها إعادة فرض الهدوء بالقوة المجردة، ومن نتائج هذا الاضطراب تعمق الأزمة الاقتصادية وانهيار العملة الوطنية وهبوط القدرة الشرائية والتضخم، غير أن الشيء الأهم الذي يرصده المراقبون هو اتساع الهوة بين نخبة عقائدية مذهبية وأكثرية لم تعد ترى في التشدد المذهبي جزءاً من أسلوبها في الحياة.

يعرف مسؤولو النظام أن وصول مشاعر الجمهور إلى هذا الحد يشكل خطراً جدياً على نظامهم وعلى وجود إيران نفسها كدولة موحدة، ذلك أن تراجع التدين المذهبي يعني في رؤية النظام تراجعاً للهوية الدينية الجامعة (المذهب الشيعي)، بالتالي تراجع الهوية الوطنية المفروضة التي لا تأخذ في الاعتبار التنوع الإثني والقومي لشعوب بلاد فارس، وهو ما تنبه إليه علي أكبر ولايتي مستشار المرشد علي خامنئي في مقالة نشرتها وكالة “تسنيم” الرسمية، ذكر فيها بالشاه إسماعيل وكيف جعل المذهب ركن توحيد لإيران المعاصرة، داعياً إلى عدم نسيان هذه الواقعة في مواجهة التحولات والتحديات الطارئة، مقالة ولايتي حملت هروباً من الواقع، فهو كما سائر من ينطق باسمهم يستشعر أخطاراً، لكنه وغيره لا يقرون بالخطأ وبحجم مسؤوليتهم عنه.

 فإلى القمع الداخلي يثيرون مشكلات قد تقود إلى تهديد وحدة بلادهم ما ينعكس في تداعيات كبرى مع المحيط الإقليمي.

أدى القمع في بلوشستان والأهواز إلى إحياء المشاعر الانفصالية، وإثارة مزيد من التوتر مع الجيران العرب والباكستانيين والأفغان، وندفع قادة النظام الأمني الإيراني إلى توجيه تهديدات مباشرة ضد دول الخليج العربي، وفي الشمال زادوا في توتر العلاقات مع أذربيجان ومن خلفها تركيا على خلفية قمع المنتفضين الأذريين، ونظم الحرس الثوري مناورات ضخمة على الحدود الأذرية، فيما كانت صواريخه تقصف مناطق الأكراد في العراق رداً على إسهام كرد إيران في انتفاضة الشعب الإيراني.

القمع في الداخل وانخراط إيران في تزويد روسيا بالمسيرات للحرب في أوكرانيا سرعا تدهور علاقاتها مع أوروبا وأميركا وعمقا الشلل في الملف النووي، وجعلا احتمال المساومة في ملفات إقليمية لإيران تأثير فيها خصوصاً في رباعي النفوذ، اليمن ولبنان وسوريا والعراق أمراً صعباً.

ربما كانت القيادة الإيرانية تعتبر الانتفاضة الداخلية “هدية من الله”، مثل الحرب الأوكرانية التي قال مسؤول إيراني يوماً إنها “هدية” إلهية وفق ما نشرت “فايننشال تايمز” في يونيو (حزيران) 2022، فهذه القيادة لم تخرج مما يجري في بلادها سوى باستنتاجات تدعم نظرتها إلى العالم انطلاقاً من الحرص على أبدية النظام، لم تر في الاحتجاجات “انطلاقة لثورة كرامة” تعني جموع الايرانيين إضافة إلى أقليات” تم التعامل معها على مدى أربعة عقود كمواطنين من الدرجة الثانية”، على حد قول أحد معارضي النظام، وإنما صنفتها منذ البداية كمؤامرة كونية ضد إسلامويي ولاية الفقيه الذين ينطق باسمهم المرشد علي خامنئي.

كان خامنئي صاغ نظرته إلى انتفاضات لبنان والعراق في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 في خطاب سيردده في حديثه عن انتفاضة الإيرانيين اليوم، قال قبل ثلاث سنوات إن احتجاجات لبنان والعراق “أعمال شغب تديرها أميركا وإسرائيل وبعض دول المنطقة”، واليوم يقول الأمر عينه عن انتفاضة بلاده.

لا شعوب في المنطقة وإنما فقط، حرب المرشد مع أميركا وأعوانها، وهذه نظرية صاغها خلفاء الخميني وطورها الخامنئي في خطابات أخيرة مستثيراً ذكرى رئيس الوزراء السابق محمد مصدق ليقول إن الصدام مع أميركا بدأ منذ 1953 ولا يزال مستمراً، في هذا الصدام، يقول خامنئي، إن سياسته نجحت في” كل من العراق وسوريا ولبنان ما أدى إلى هزيمة أميركا في هذه الدول”، ومنعها من ضرب طهران عبرها فانتقلت إلى تحريك الداخل الإيراني.

يقوم النظام الإيراني على أيديولوجية ثابتة ينهار إذا تخلى عنها، قوامها نظرة جامدة إلى العالم تنظر إلى أميركا كشيطان ينبغي دحره، وإلى الإقليم كمنطقة نفوذ وتوسع، وليس على الإيرانيين سوى السير في هدي هذه الرؤى وترك يومياتهم الحياتية ومستقبل أبنائهم جانباً، يعد خامنئي مريديه بنظام عالمي جديد قوامه ثلاثة خطوط يقول في تفصيله، الخط الأول أميركا ستجبر على الانكفاء من أنحاء العالم، والثاني، انتقال القوة السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية من الغرب إلى آسيا، والأخير، فكر المقاومة وجبهتها سينتشران.

يعود هذا الخطاب الإيراني إلى ما قبل ثلاث سنوات، وفي ضوئه يتعامل المرشد مع المشرق العربي والخليج وبداية مع شعبه، والنتيجة هي في ما يحدث اليوم في الداخل وما يلقاه من نبذ في الدول المحيطة، غير أن الأهم هو ما يحصل في داخل إيران.

لا يعترف خامنئي بعد تظاهرات يومية ومئات الضحايا وآلاف المعتقلين بوجود شعب إيراني ثائر، إنهم في نظره حفنة من المشاغبين والمخربين والعملاء، باختصار هم مجرد “طابور خامس” معاد للثورة الإسلامية.

قبل أيام اعتقلت الشرطة الإيرانية فريدة مرادخاني ابنة شقيقة خامنئي لأنها احتجت على القمع ودعت المجتمع الدولي إلى عزل الجمهورية الإسلامية تضامناً مع الشعب الإيراني، شقيق فريدة انضم إلى أخته رافعاً صوته ضد القمع، وبعد أيام خرجت أمهما بدري حسيني خامنئي، شقيقة المرشد لتقول عنه بصوت عال، “ليست له أذان صاغية ويواصل طريق الخميني في قمع وقتل الأبرياء، أخي لا يستمع إلى صوت شعب إيران، ويظن أن صوت مرتزقته هو صوت الشعب، ويطلق ما يناسبه على الشعب المضطهد في إيران”.

جاءت الصفعة من أقرب المقربين، العائلة، في ما كان القائد وأعوانه يشنون حملة على الطابور الخامس من عملاء الأجانب، لكن الأجانب لم يكونوا في حاجة لأي تحرك، هذا لو أرادوا ذلك أو قرروا السعي إليه.

بعد تصريحات شقيقة خامنئي خرجت صحيفة روسية شبه رسمية بعنوان يختصر قصة إيران مع خطابات قائدها، قال العنوان، “طهران تبحث عن طابور خامس في عائلة المرشد”، اختصرت الصحيفة” الحليفة” في عنوانها واقع إيران الراهن وابتعاد قادتها عن العالم الواقعي وأوهامهم في السيطرة وتصدير ثورتهم المذهبية، مع ذلك يواصل هؤلاء الهروب إلى الأمام في مواجهة أطول الانتفاضة عمراً واتساعاً، في إنكار خطير يعرفون أنه لن ينفع في توطيد سلطة دينية ديكتاتورية عدوانية باتت خارج التاريخ والمنطق.

نقلا عن اندبندنت عربية

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى