صراعاتُ ميليشياوية مستعصية
إنها تتكونُ وتتفكك، وتجتمعُ وتنشق، وتتحالفُ وتتقاتلُ، فى إطار حالةٍ مُستغلقة يصعبُ تعقل معانيها، وتخضع لألاعيب قادةٍ صغارٍ أو رجالٍ ذوى نفوذ يُغيرون استراتيجياتهم الشخصية دون توقف. ولهذا تفتقرُ التحركاتُ الدبلوماسيةُ التقليدية إلى الفاعلية، وتسعى إلى التكيف بصعوبةٍ ومشقةٍ مع نظامٍ غير طبيعى هو نسيجُ وحده يتحدى قوانين الجغرافيا السياسية الكلاسيكية. هكذا لخص برتران بادى الأستاذ فى معهد الدراسات السياسية فى باريس الدور المحورى للميليشيات فى أزمات بعض البلدان العربية التى تستعصى صراعاتُها وحروبُها الداخليةُ المرتبطةُ بمصالحٍ إقليميةٍ ودولية على أى حل.
ينطبقُ هذا التحليلُ الواردُ فى تقديمه لكتاب أوضاع العالم, الصادر حديثًا عن مؤسسة الفكر العربى, على أزمتى سوريا وليبيا تمام الانطباق، وعلى أزمة اليمن إلى حدٍ كبير. بلغ عددُ هذه الميليشيات فى ذروة الحرب السورية عدة مئات، ثم تراجع الآن إلى بضع عشرات. وفى ليبيا عشراتُ أخرى تعترضُ أى طريقٍ يُشرعُ فى فتحه، وتُحبطُ أى محاولةٍ للخروج من الأزمة. ورغم أن عدد الميليشيات فى اليمن أقل، فقد أضفت على الصراع والحرب طابعًا غير عادى فى صورةٍ أخرى. فقد تكونت ميليشياتُ متحاربةُ فى إطار التحالف الذى يحارب الجماعة المسماة أنصار الله وحكومتها، والمعتمدة بدورها على ميليشياتٍ ولكنها متراصةُ وليست منقسمة.
ولكن استعصاء الأزمات الثلاث على الحل لا يعودُ إلى وجود هذه الميليشيات فقط. فما كان لها أن تكتسب كل هذه القدرة إلا لأن الحالة العامة فى البلدان المذكورة ميليشياوية بامتياز. فسلوك مختلف الأطراف، بما فيها التى لا تُعدُ ميليشيات بالمعنى المتعارف عليه، يتسمُ بطابعٍ ميليشياوى. طريقةُ التفكير الغالبة فى إدارة الصراع ميليشياويةُ فى جوهرها، الأمر الذى ينتجُ شبكةً من التفاعلات غير المألوفة المؤدية إلى مزيدٍ من الاستعصاء. ولهذا لا تُجدى تحركاتُ دبلوماسية تقليدية يسهمُ بعضُ من يقومون بها فى تكريس الحالة الميليشياوية العامة, فى الوقت الذى يُعادُ إنتاجُ الأزمات فى أشكالٍ متنوعة يجمع بينها أن السلاح هو الذى يتحدثُ، وليست السياسة. وقد يكونُ حديثُ السلاح هذا صاخبًا، وقد يخفتُ لبعض الوقت قبل أن يُدوَّى مُجددًا.
*نقلاً عن الأهرام