زيارة الى سجن شيبان في الأحواز
عبدالوهاب جواد كروشات
فِي سَاحة السجن غَرابِيب سُود، لؤلؤةٌ مَكنُون، نِساء مُسلِمات مُنتقِبات ظاهرهن الإلتزام ولله العِلم وحده. ينتظرن رؤية أزواجهن الأسرى، إن أردت أن اصف المَنظر بكَلمة واحِدة اكتَفي بقَول (هيبة).
هيبة يَا صاحبِي وعِز يتملّك أعمَاق قلبُك عِندمَا ترى مَا رَأيت، وألم يعتصر رُوحك ويُفتِّتها إن سمعت مَا سمعت، وتذوب حسرة وحرقة عندما ترى طفلاً يرتدي ملابس العيد جَاء لزيارة أبيه، حَارة السجن كئيبة، حزينة لا أُنس فِيها، وكأن البيوت مهجورة وسكانِيها بيها، أول مَا دخلت حَاوط قلبي غشاوة من العجز والألم، هاجّت أحزانُ السنين، احسست إنني فقدت قواي الدّاخلِية، شيءٌ مَا مات داخلي، فيَجثو قلبِي على رُكبتيه نائِحًا: اهدأ قليلًا، هلكتني.
مئات النِساء ينتظرن تِلك اللحظة المُوعودَة، لحظة إلتقاء العينين، وتهامس القلبين، وبكاء الروحين، يحملن أشياء بسيطة لهم، من حذاء وقميص وسجادة …، ونصفها تعود مردودة، وأطفال مزينين ينتظرون رؤية أبيهم من خلف حَاجز بلّوري لعين،
وقبل أن تلتقي بمن تُحِب عليكَ أن تنتظر أكثر من سَاعه وحينها تذوب شوقًا، وتَسارِع الزمن، تريد أن تطوي هذه المدة لتلتقي مَع الحبيب، وأين لحظة أجمل من تِلك؟
قابلت نساء قطعن الكيلومترات لأجل نصف ساعه لقاء!
ألا تستحق تلك العينين؟ بلى والله. تفداها كل متخاذلٍ خوان.
وقُبيل اللحظة المَعهُودة يلبس الأسير أجمل مَا عنده، يحمل هدايَاه، يهذّب شعره، يخلق إبتسامه من قَاع الألم ، ويأتي يهرول باحثًا بين الشبَابِيك عن ضحكة طفله، وعيني زوجته.
هاهو قد وجدهما، يتبسم ضَاحكًا ويرسل قُبلة بلوريّة، هنا تتشعب المشاعر وتتداخل، أفرح أنت لرؤية الحبيب؟ أم حزينٌ لأجل حاله؟ أتنتظر عودتهُ إلى بيته؟ أم متشوق لمعرفة أخباره؟
(ومن شدّة خبثهم) عليك أن تنتظر مُدة لِفتح خَط اللاسلكي بينكُما لأجل التواصل، والدقائِق مَعدُودة عَليك.
(ومن شدِّة حرصهم) يتحدث الاسرى مَع أهلهم بالإشارات وإرسَال القُبلات التِي لن تصل ومسح الدُّموع والأنتظار، والدقَائِق معدودة عَليك أنتَ ايضًا..!
لنترك الأَعين تلتقي وتتكلّم بما لا يُباح بِه، لتشكوا ألم الفُراق، وضِيق السجن رُغم وسعتِه، وشوقٌ يُفَتت الأكبَاد، وهمه تحَطِم الجبال من رجالٍ أشداء.
حتى لقائهم مُراقب فلا يتكلّمون بما ترتاح بِه النفُوس.
هَا قد انتهت النصف سَاعه الجميلة، وانتهى الحلم السعيّد، فَاز قوم وخسر الآخر. خرجوا بين ضَاحك وباكٍ، وبين مودعٍ ومُستَقْبِل.
وأمّا من فَاز برؤية اسيره خرج ضاحِكًا مستبشِرًا، وعينيه غَارقة فِي دُموع الفرح، يحمل هديّة من صنع يده، وممّا رأيته بين أيدي الأطفال والنساء (طوق، ميدالية، اساور، مسباح، جزدان) وكله من الخرز، مصفوف بشكلٍ جميل مبدع، وأن تحصل على هدية من أسير حبيب خير لك من الدنيا وما فيها
وأما من خسر، أوااهٌ لقلبه، ذَاك الذي لا أنيس لهُ يأتِي يزوره، يبكي وحيدًا، لا يد حَانية تربت على فُؤاده
ينظر للأطفال ويزداد بكاؤه في حرقة، يجر نفسه ليعود من حيث جاء، بعيون حزينه، وظهر حاني يحمل اثقال السنين.
لمن يصنع الأساور، لمن سيعطيها؟
سوف ينام اصدقائه فرحين، مطمئنين وينام هو باكٍ حزين.
سيتحدث اصدقائه عن زيارتهم ويقلدون كلمات اطفالهم ويضحكون ويستعرضون هداياهم، وسيكتفي هو بالاستماع، واخفاء غصته.
في السجن حكايات وقصص لا نهاية لها.
▪︎امرأة عجوز جاءت من مدينة بعيدة لتبحث عن إبنها المفقود منذ سنين طويلة، هلكت روحها وهي تبحث، اخبرها من خرج إنه موجود، وقال السجان غير موجود.
جاءت بما يحب إبنها وجلست في وسط الطريق بطريقةٍ احتجاجية، ودخلت مع الحشود وكلٌ لقي حبيبه وبقيت وحيدة، فانهارت قواها وجلست تبكي وتشكو ضعفها لله وحده.
▪︎وامرأة شابة درست “القانون” سُجن زوجها منذ ٥ سنين ولا تزال عروس، عيناها شاردة طوال الوقت، تزوره وتنتظره ليرجع والله أعلم متى يعود!
▪︎وأم خَالِد جاءت لتزوره وتكون الزِيَارة الأخيرة، سيخرج أبا خالد في الشهر التاسع، فهي منذ سنين تقطع المدن والقرى لتراه قليلاً وتفرح كثيرًا، وآن لها أن ترتاح، آن لحبيبان أن يجتمعان، خرجت تحمل قلادات لأميرات العائلة، لونها أبيض وكتب اسم كل أميرة عليها بخرز أحمر بشكلٍ مهذب، وهداية أخره تُسر القلوب، كانت ترفرف من الفرح هِي وخالد.
▪︎وأخت أسير جاءت تزور أخاها، لم يخبرهم بمدة الحُكم، في كل مرةٍ يقول صابرًا محتسبًا: الحُكم لله وحده لا شريك له، والبقاءُ لله. ومما يزيد عليه وفاه عائلته بالكامل فِي لحظه واحدة، زوجته وجنينها الذي اكتمل خلقه، وثلاث بنات وكأنهما فلقة قمر في صاروخٍ غادر لعين من بني جلدتِنا.
استشهدوا وبقي وحيدًا يصارع ذكرياته واقتيد بهِ الى السجن مظلومًا.
▪︎وطفلةٌ صغيرة ذات خدودٍ وردية محجبة جميلة جاءت تزور والدِها، سألتها صديقتي:
– جئت لزيارة من؟
– بابا حبيبي
-وكم محكومٌ عليه؟
-(قالت بشيء من الاسى) بعدد أفراد اسرتِنا
– وكم عددكم يا صغيرتي؟
– عشرة!
▪︎وامرأة أخرى محكومٌ على زوجها بالمؤبد، ولا تزال تواضب على زيارته، في كل مرة شامخة قوية، تلقي على مسامعه كلمات الإصرار والثبات،(لا أزال انتظرك، أنا احبك). تكفيه هذه الكلمات ليستمر في الحياة المجهولة.
والكثير الكثير من القصص التي لا نهاية لها، فإن شرعت في كتابتها لن انتهي، فإنا لله وإنا إليه راجعون،