خطر الانزلاق النووي هل هو حقيقي؟
من أصعب وأخطر الأسئلة التي تطرح منذ حرب أوكرانيا تلك التي تتعلق بخطر استعمال أسلحة نووية في عالمنا الحالي، وما يمكن أن ينتج من ذلك من نتائج كارثية على المجتمعات والبشرية جمعاء.
تصاعد هذا الشعور في الإعلام ولدى الرأي العام الدولي بعد إعلان الكرملين نشر وحدات تكتيكية نووية على مسافة من جبهات أوكرانيا وقريباً في بيلاروس، “لاستعمالها إذا وسع (الناتو) ضغطه العسكري”. أضف إلى ذلك تهديدات كوريا الشمالية الدائمة بمحو أعدائها كلياً، وشعارات القيادة الإيرانية بإزالة إسرائيل بواسطة صواريخها.
العالم يرتجف من “سيناريوهات نهائية” كهذه لأن نتائجها كارثية على ملايين السكان، وعلى البيئة العالمية، وبالطبع على الاقتصاد الدولي، ولكن مختلف الحكومات التي تتحكم بالسلاح النووي على سطح الكرة الأرضية تعرف تماماً أن مجرد استعمال هذا السلاح الإبادي سيخلق كارثة إنسانية لا يمكن للذهن البشري أن يتحملها. إلى حد أن القنبلة الذرية باتت تعد سلاح ردع “لا يستعمل” أكثر منه سلاحاً يستعمل في الحروب عملياً. فالقنابل الهيدروجينية فظيعة الانفجار والتدمير إلى حد لا يعرف صانعوها إلى أي مدى يمكن أن تصيب الحياة البشرية، حتى أبعد من أهدافها.
قنبلتا نغازاكي وهيروشيما التي قصفت بها اليابان تعد صغيرة جداً مقارنة بالقنابل اليوم. وليس تأثير حادثة تشرنوبيل في الاتحاد السوفياتي، الذي نشر القلق في أوروبا إلا حبة قمح مقارنة بموجات الارتداد التي ستلحق بأي تفجير هيدروجيني في هذا القرن.
الدول التي تمتلك سلاحاً كهذا تعير هذه مسألة أمن التكنولوجيا النووية أهمية قصوى، حتى تلك التي يتهمها البعض باتجاهاتها التدميرية كالنظامين الإيراني والكوري الشمالي، إضافة إلى الهند وباكستان، وإسرائيل ودول دائمة العضوية في مجلس الأمن. هذه الأخيرة لم تأتِ على أي كلام ينذر باستعمال السلاح النووي، إلا عندما أشارت روسيا إلى ذلك مذ بضعة أشهر، ولكن على رغم ذلك فحتى موسكو كانت تاريخياً حريصة على ضبط هذا السلاح النووي، خاصة بسبب قلقها من أن تضع مجموعات إرهابية يدها على مواد أو أسلحة نووية.
إذاً معظم التحليلات، ما عدا تلك التي تركز على مواجهة الإرهاب، تخلص إلى أن أي اشتباك نووي قد يأتي كنتيجة خطاء أو سلسلة أخطاء، أو عدم فهم نوايا الطرف الآخر كما كاد يحدث خلال أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر (تشرين الأول) 1962، لذا فلنستعرض لائحة نظرية للأطراف المالكة لهذا السلاح وسيناريوهات الاستثناء التي من الممكن نظرياً أن تؤدي إلى مواجهة من هذا النوع.
الحالة القصوى: هي حصول منظمات إرهابية كـ”القاعدة”، أو “داعش”، أو مجموعات قومية متطرفة على أي نوع من الأسلحة الذرية لأن بعض هذه التيارات انتحارية، قد تقبل باستعمال سلاح تدميري ماسح للبشر بغض النظر عن نتائجه المتراكمة. مجموعات كهذه لا يهمها أن ينجو شعبها أم لا، ما دامت تهدد عدوها أصولياً وتريد إلغاء العدو بغض النظر عن نجاة الشعب.
كوريا الشمالية: خطر الانزلاق إلى ضربة نووية موجود، على رغم أن جيش بيونغ يانغ يسيطر على السلاح الاستراتيجي بما فيه الصواريخ الباليستية والقوة النووية (غير المعلنة وغير الملتزمة الاتفاقيات الدولية). والحزب الحاكم يسيطر على الجيش، وقائده كيم جونغ أون يسيطر بيد من حديد على كافة المؤسسات.
“الرئيس كيم” يدرك تماماً أن إطلاق صواريخ نووية على كوريا الجنوبية سيؤثر في الجزء الشمالي بشدة، وإطلاقها باتجاه أهداف أميركية سيجلب ضربة استراتيجية قاضية لنظامه، وربما بلاده، هذا أمر تعرفه القيادة الشيوعية، ولكن خطر الانزلاق إلى النووي قد يحدث إذا أخطأ كيم جونغ أون في تقديره لتحضيرات الخصم، بمعنى أن يعتقد القائد أن الحلفاء يستعدون لضربة استباقية تؤدي إلى إسقاط النظام. وبسبب قلة الاتصالات بين الأطراف، وشخصية الرئيس كيم، فإن خطر التصعيد حتى الوصول إلى النووي موجود، وإن كان محدوداً، ولكنه واقعي. ويعتمد المجتمع الدولي على الصين لضبط سلاح بيونغ يانغ.
روسيا: منذ 1991 ومع سقوط الاتحاد السوفياتي، تصرفت موسكو بكل مسؤولية حيال مسألة منع استعمال الأسلحة النووية وقد دخلت في اتفاقات مع سائر أعضاء “النادي الذري”، بخاصة الولايات المتحدة لضبط تهريب المواد النووية عالمياً. فروسيا التي عانت حادثة تشرنوبيل، اختبرت أزمة خطرة مع الإشعاع وطورت حمايتها منه. وينظر إلى موسكو كثاني قوة في العالم مسؤولة عن ضبط الخطر النووي، ولكن مجرد تصريح مسؤوليها أخيراً عن احتمال نشر هذه الأسلحة في الساحة الأوكرانية وبيلاروس، سلط القلق على احتمال استعمال هذا السلاح في الساحة الأوروبية، ولو كانت ذرية تكتيكية.
والسؤال الآن حول السيناريو، حيث يأمر الكرملين بقصف نووي، وهو الاحتمال الوحيد، حتى ولو كان ضعيفاً. الجواب الممكن الذي يمكن استشرافه من الخطاب القيادي الروسي هو اللجوء إليه في حال “هجوم غربي على أراضٍ روسية” ويعني ذلك أي محاولة لاجتياح مقاطعة كالينيغراد الواقعة على البلطيق بين بولندا وليتوانيا، أو التقدم داخل أراضٍ أعلنت موسكو أنها “روسية” داخل أوكرانيا، وهي الخط الأحمر الحقيقي في حرب أوكرانيا. فما دام “الناتو” بعيداً من المنطقتين المذكورتين، فليس هناك خوف حقيقي من إطلاق روسيا لصواريخ نووية باتجاه الغرب.
وقد يكون هناك سيناريو آخر يشعل المواجهة النووية التكتيكية، وهو قصف استراتيجي عميق للمدن الروسية، بما فيها موسكو. فالصدمة النفسية التي ستحدث في روسيا ستخول الكرملين بقصف أوكرانيا بأسلحة تكتيكية نووية. فما هو احتمال سيناريو كهذا؟
في المبدأ أي كلام لقوة كبرى، وبخاصة إذا كانت نووية، عن تعبئة لقواتها التي تسيطر على هذه الأسلحة، يجب أن يؤخذ على محمل الجد. أما عملياً فالكرملين أيضاً قلق من أي استعمال لسلاح كهذا، بالتالي فهو يوجه رسائل تهديدية بأنه سيجبر مكروهاً للجوء إلى التكتيكي النووي إذا وجه بخسارة أراضٍ روسية. عملياً روسيا ترسم الخط الأحمر بتهديد الاستعمال، متكلة على أن “الناتو” لن يخرق هذه الخطوط.
إيران – إسرائيل: محور المواجهة بين الجمهورية الإسلامية ودولة إسرائيل يعد الأكثر قرباً، بحسب القراءة التحليلية، من استعمال للسلاح النووي لعدة أسباب أهمها أن القيادة الإيرانية أعلنت مراراً أنها “ستمحو إسرائيل من الوجود” من ناحية، وأنها تبني ترسانة استراتيجية هدفها “إنهاء الدولة العبرية” من ناحية ثانية، مما أزال الشك في الغرب أنه إذا حصلت طهران على القدرة، فستستعملها ضد ما تصفه “بالكيان الصهيوني”.
ما بعد الاتفاق النووي الإيراني
ولكن الإسرائيليين أنفسهم يعرفون أن إيران تحسب أن أي ضربة على تل أبيب ستأتي بضربة أكبر على طهران، إذ يمتلك الجيش الإسرائيلي ترسانة واسعة من القنابل الذرية، لذا فالتحليل الاستراتيجي يخلص إلى أن القيادة الإيرانية لن تقدم على هجوم كهذا قبل التأكد من أن تل أبيب (حيث وزارة الدفاع) لن تتمكن من الرد إذا حصل هجوم صاعق. إلا أن انتشار الغواصات والقاذفات البعيدة المدى الإسرائيلية، تغير حسابات الإيرانيين.
ولعل الاستعمال المكثف للصواريخ الباليستية الإيرانية في المنطقة خلال السنوات الماضية يعزز قناعة المحللين بأن طهران قد تستعملها من جديد في مواجهتها مع إسرائيل، إذا اقتنعت بالحسم النهائي على عدوتها، وهو أمر لم تتمكن من حسمه في حساباتها بعد.
الهند وباكستان: الجارتان اللدودتان، ولكنهما مهادنتان منذ عقود، تملكان ترسانات واسعة من الأسلحة النووية والصواريخ التي تغطي مساحة البلدين. كثير من الملفات القومية والطائفية والجغرافية لا تزال تفصل بين الدولتين، لا سيما ملفات الأقليات الإثنية، لكن في إسلام آباد ونيودلهي مؤسسات عسكرية وأمنية قابضة على ترسانات كهذه وجدية في ضبطها إلى أقصى الحدود، كي لا تؤدي أي حرب نووية بين البلدين إلى تدمير الدولتين وقتل مئات الملايين من مواطني الجهتين. إلا أن هناك خطرين في هذه الساحة: الأول هو احتمال حصول خطأ تقدير تقني عند كلا الطرفين، وحدثت حالات كهذه في الماضي، حيث أخفقت أنظمة الرصد في معرفة هوية الأجسام الطائرة وكادت تجهز الرد. أما الاحتمال الثاني فهو سيطرة عناصر إرهابية أو متطرفة على منصات صواريخ، أو على أسلحة نووية في كلا البلدين واستعمالها مما قد يقود إلى كارثة في البلدين.
الصين النووية: قيادة بكين، كسائر الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن أيضاً وضعت نظاماً صارماً حل هذا السلاح الفتاك، وهي تتسلق السباق لتتحول إلى القوة النووية الثالثة في العالم، وقد طورت صواريخها وترسانتها إلى مستوى عالٍ جداً في العقد الماضي. ولكنها في الوقت نفسه، وبعكس كوريا الشمالية وإيران لم تهدد بكين باستعمال هذا السلاح على رغم تطوير قدراتها الهائلة، فقد حرصت “القوة الحمراء” على الظهور بصورة القوة الكبرى “الهادئة والمستقرة والمسؤولة”، وهي شروط لجلب الربح المالي والتعاون الاقتصادي. فضبط هذا السلاح من مصلحة الصين القصوى في مجال “البيزنس” الدولي.
وتتأنى بكين في التلويح باستعماله، ولكنها تعرضه عند الضرورة في المناسبات كرسالة ردع حازمة ضد خصومها. أما الخطر الممكن في هذا المجال، فيأتي من احتمال التصعيد حيال ملف تايوان، إذ إن القوات الصينية باتت تقوم بتدريبات أوسع وأكثر تحدياً حول الجزيرة، مما يدفع بـ”تايبيه” أن تمتلك سلاحاً رادعاً، وقد يصل ذلك إلى حد تصنيع قذائف نووية، مما يجعل الصراع بين الطرفين قد ينزلق بالاتجاه الدراماتيكي. وقد يقود ذلك إلى احتمال تصنيع اليابان أسلحة ذرية أيضاً، فتتحول شرق آسيا إلى منطقة انتشار نووي خطر بين الكوريتين والصين واليابان وتايوان، حيث الانزلاقات خطرة.
“الناتو” الهيدروجيني
واشنطن وباريس ولندن، أركان الغرب النووي والقوة الأكبر مجتمعة، تدير أكبر وأوسع شبكة من الأسلحة النووية والهيدروجينية في العالم، إضافة إلى أكثر المنصات انتشاراً من خنادق تحت الأرض إلى غواصات، وصواريخ عابرة، إلى قدرة نشر في الفضاء. وتحت إشراف الولايات المتحدة.
استحدث الغرب أمتن منظومة لضبط استعمال الأسلحة هذه وتكنولوجيا للتأكد من المعلومات الواردة حول ضربات الخصم المحتمل، إضافة إلى أنظمة التصدي الدقيقة لصواريخ هذا الخصم.
بالطبع “الناتو” النووي لم ولن يشن حرباً نووية من طرف واحد، بل يتصدى لضربات إذا أتت. إلا أن الهم الأكبر في الولايات المتحدة لناحية الانزلاق، ويا للمفارقة، يأتي من الداخل. فأجهزة الأمن والاستخبارات الأميركية والأطلسية، أكثر ما تخشاه هو اختراق للسلاح النووي على أيدي إرهابيين ومتطرفين إما من “الشبكات الإسلاموية” الراديكالية، الهادفين إلى استكمال ضربات 11 سبتمبر (أيلول) على طريقة بن لادن، أو من أقصى المتطرفين القوميين الأميركيين الغاضبين من “خسارة أميركا لهويتها التاريخية”، برأيهم. إرهابيون كهؤلاء، إذا تمت تعبئتهم إلى هذا الحد، فلديهم القدرة النفسية ليستعملوا هذا السلاح المدمر لأسباب مختلفة.
إذاً في الخلاصة، القيادات النووية في العالم تعرف تماماً خطورة الانفجار الذري أياً كانت الظروف، وتحتاط إلى أبعد الحدود، ولكن خطر الانزلاق أو ثغرات المتسللين، وارد في أية لحظة، وإن حصل فسيغير مسار الإنسانية لفترة طويلة.
نقلا عن اندبندنت عربية