مقالات
بعد الانكفاء الأميركي.. إيران ترى الطريق إلى القنبلة النووية
بندر الدوشي
لا يمكن الحديث عن تبعات الانسحاب الأمريكي من أفغانستان على العالم والمنطقة في مقال واحد، فالتأثير داخل أمريكا عميق وخارج أمريكا أعمق وأخطر.
كانت البداية عندما تم انتخاب ترمب رئيسا لأمريكا كان العالم في حالة ذهول لفوز رئيس ينادي بعزلة أمريكا ويهاجم حلف الناتو ويرفع شعار أمريكا أولا، كان من الواضح أن شعاراته حول إنهاء الحروب الأبدية وأمريكا أولا قد أوصلته إلى البيت الأبيض وبالفعل قام بتنفيذ معظم وعوده وكان يخطط للانسحاب من أفغانستان بشكل كامل لكن وبسبب ضغط الجنرالات والتحذيرات الجدية من ويلات الانسحاب تراجع.
وعندما فاز بايدن بالرئاسة وعد العالم بأن أمريكا قد عادت وأن العالم الحر بإمكانه الاعتماد على الولايات المتحدة كحليف ثابت ويمكن التنبؤ بتصرفاته معتمدا على شعارات واضحة تعني خروجا وتراجعا عن سياسات سلفه ترمب.
وكما هو معلوم فإن أفغانستان هي المكان الوحيد الذي اجتمع فيه حلف الناتو في جهد عسكري موحد بعد تحولها إلى مأوى للتنظيمات الراديكالية، حيث فعل الحلف تطبيق المادة 5 في الحلف وهي المرة الوحيدة التي يطبق فيها الحلف هذه المادة، وتعني أي اعتداء على أحد الأعضاء يعني هجوما على الجميع ردا على هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وانتهى تطبيق هذه المادة بتحالف مكون من عشرات الآلاف من الجنود وعشرات الدول واستطاع هزيمة القاعدة وطالبان ومنع أفغانستان مدة عقدين من الزمن من أن تتحول لملجأ للتنظيمات الإرهابية.
لكن بايدن وبضغط داخلي أفسد كل شيء بحسب الحلفاء الأوروبيين، وأوضح مثال على خيبة الأمل لدى الأوروبيين هو ما عبر عنه نوربرت روتغن رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الألماني قائلا “أقول ذلك بقلب مثقل وبرعب مما يحدث، كان الانسحاب المبكر سوء تقدير خطير وله آثار بعيدة المدى من قبل الإدارة الحالية”. أما رئيس لجنة الدفاع البريطانية في البرلمان توبياس اليود فقد كان أكثر تشاؤما وصرح قائلا “هذا الانسحاب خطأ فادح وله عواقب مدمرة بعيدة المدى”. بخلاف الانتقادات الحادة لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير الذي حذر من عواقب بعيدة المدى من الانسحاب من أفغانستان.
ماكرون بدوره الذي يستعد لخوض حملة إعادة انتخابه فكان أكثر تعاسة معلنا أن أوروبا لا تستطيع تحمل تبعات ما يحدث في أفغانستان وحدها، مجريا مكالمات مع القادة الأوروبيين ومتجاهلا بشكل متعمد الاتصال بالولايات المتحدة الأمريكية. حتى بيان الاتحاد الأوروبي الذي تعهد بدعم حقوق الإنسان في أفغانستان تجاهل ذكر الولايات المتحدة الأمريكية ولو لمرة واحدة.
وليس من قبيل المصادفة أن تكون ميركل في موسكو وتجتمع مع بوتين في الأسبوع الذي انسحبت فيه أمريكا من أفغانستان بدلا من زيارة واشنطن.
أوروبا أدركت بأن واشنطن لم يعد من الممكن الاعتماد عليها وأن عليها إحياء فكرة تشكيل قوة عسكرية مستقلة اقترحها ماكرون قبل سنوات تهدف لملء الفراغ وأعتقد أن هذا الاقتراح سيرى النور مستقبلا.
ماذا تعني هذه التحركات الأوروبية؟
تعني بشكل واضح أن أمريكا المنكفئة على نفسها لم تعد في سياق المحادثات العالمية وأن قدرتها وتأثيرها على خلق تحالفات وقيادة العالم تضررت بشدة بعد مع صعود الصين واستمرار الصراع مع روسيا. وتقول نيكي هيلي سفيرة ترمب لدى الأمم المتحدة سابقا حول تأثير الانسحاب على الحلفاء “يرسل الفشل الذريع في أفغانستان رسالة لا لبس فيها إلى الحلفاء في المستقبل مفادها أننا لن نساندهم. فعندما نعامل الأصدقاء بهذه الطريقة ينتهي بك الأمر بدون أصدقاء”.
عديدة هي التساؤلات المحيرة التي طرحها الانسحاب الأمريكي اللامسؤول من أفغانستان مع سوابق تاريخية في العراق وفيتنام، ويتردد صداها جيدا حول العالم خصوصًا في أوكرانيا التي تواجه عدوانا روسيا محتملا، وتايوان التي ترى غزوا صينيا وشيكا.. ماذا ستفعل أمريكا لو غزت الصين تايوان؟
الإجابة على الأرجح لا شيء.
ماذا عن حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط؟ هل مازال الشرق الأوسط يثق في قدرة أمريكا وأوروبا على منع حصول إيران على سلاح نووي؟ حاليا تتفاوض أمريكا وأوروبا مع إيران بهدف العودة إلى الاتفاق النووي ومنعها ولو مؤقتا من الحصول على سلاح نووي وسط حالة من انعدام اليقين بين أمريكا وأوروبا. وعلى الأرجح أن طهران قرأت رسالة الانسحاب جيدا وهي أن التحالف الأمريكي الأوروبي في حالة من الشك وأن مواجهتها أو منعها من حصول سلاح نووي بالقوة غير واردة، على الأقل في الفترة المقبلة ولهذا السبب تم اختيار رئيسي لقيادة المرحلة النووية المقبلة حيث تواصل طهران تسريع الجهود لتخصيب اليورانيوم للوصل إلى عتبة القنبلة النووية بالسرعة القصوى مستغلة انشغال العالم بالملف الأفغاني وانكفاء الغرب.
يضع الاندفاع الأمريكي إلى الداخل العالم في حالة من الضبابية حول دور أمريكا مستقبلا. هل نحن نعيش حقبة تفكك النظام العالمي الحالي في ظل الانكماش الأمريكي؟ الإجابات على هذا السؤال من واشنطن مرتبكة رغم نفي بايدن وجود تأثير على المصداقية الأمريكية حول العالم بعد الانسحاب إلا أن هناك غموضا في أهداف السياسة الخارجية الأمريكية في العقد المقبل على عكس النهج الصيني والروسي.
ومهما كانت التبريرات الأمريكية يجمع المحللون بأن الانسحاب من أفغانستان كارثة، لا يمكن تحملها وأن الثمن الذي ستدفعه أمريكا على المدى الطويل من انسحابها هناك يفوق خسائرها من تواجدها.. والمؤسف هو أنه ليس أمريكا فحسب بل العالم سيجني مرارة التراجع الأمريكي خصوصا الشرق الأوسط الذي يرى صعودا في عدوان النظام الإيراني الذي بات قاب قوسين من السلاح النووي.
نقلا عن العربية