اليمن: استباقية السياسة السعودية 2
خالد اليماني
يترقب المعنيون بشؤون الشرق الأوسط الاجتماع القادم بين وزيري خارجية السعودية وإيران، في ضوء احتمالات أن تؤدي المقاربات الثنائية بين البلدين، والقراءات التفصيلية لبنود اتفاق بكين الذي تم التوصل إليه في 10 مارس (آذار)، إلى توافق إيجابي يسهم في حلحلة التوتر الإقليمي، وصياغة نظام إقليمي جديد، يكون الجميع فيه كاسباً، ويعود بالاستقرار والازدهار للشعبين السعودي والإيراني ولبقية شعوب المنطقة.
ويكاد يجمع المراقبون على أن اتفاق دولتين كبيرتين ومحوريتين في منطقة الشرق الأوسط يكتسب أهمية استثنائية من حيث مردوداته الإيجابية على مصالح البلدين الحيوية في المقام الأول، وتالياً ستكون له مردودات إقليمية واسعة. ولهذا فإن عديداً من التحليلات التي لم تجد في الاتفاق آثاراً حاسمة ومباشرة لنهاية الصراع بين الأطراف اليمنية، لم تجانب الحقيقة، لأن الاتفاق كما أشارت نصوصه الرئيسة يتعلق بحماية المصالح الحيوية العليا للبلدين المعنيين.
ومهما كانت النيات تجاه الأزمة اليمنية ومقاربات حلحلتها في الرياض وطهران فإنها تظل نيات، فقد خبر الشعب اليمني خلال السنوات الثماني الماضية صدقية السعي السعودي للبحث عن حل شامل لأزمة فشل الدولة في اليمن، ولكن إيران لم تقدم خلال سنوات الحرب إلا المناورات الكلامية، والتي لم تخفِ رؤيتها العقدية القائمة على أيديولوجيا “تصدير الثورة”.
وزير خارجية إيران حسين أمير عبداللهيان خلال زيارته الأسبوع الماضي لموسكو أكد أنه على رغم أن عودة العلاقات بين الرياض وطهران تشكل خطوة إلى الأمام، فإنها تحتاج إلى بعض الوقت، ولا تزال هناك مشكلات لا ترتقي لمستوى العقبات. وحول الأزمة اليمنية التي لطالما أكد أنها شأن داخلي، قال إن طهران ترحب بأي مبادرة لحل الأزمة اليمنية، وهذه المواقف من اليمن ظلت إيران ترددها طوال السنوات الماضية. ولم يستعرض الوزير الإيراني موقف بلاده من المبادرات المطروحة لحل الأزمة اليمنية، وعلى رأسها المبادرة السعودية المقدمة في مارس 2021، ولا موقف بلاده من قرارات الشرعية الدولية ومبادرات الأمم المتحدة للحل في اليمن.
وخلال سنوات الحرب الثماني قدمت إيران ملايين الدولارات عبر شحنات الأسلحة والصواريخ والمسيرات ولوجيستيات الحرب، ولم تقدم دولاراً واحداً لإغاثة الشعب اليمني الذي دمرته آلة الحرب الإيرانية، وحينما يطرق باب إعادة الإعمار في اليمن فستكون إيران ملزمة بتقديم عشرات المليارات من الدولارات لعملية التعافي في اليمن، ولن تسقط جرائمها بالتقادم.
منذ اليوم الأول لبدء الحرب اليمنية كان الرأي السائد لدى الأوساط الدبلوماسية الغربية يتلخص في أن علاقة إيران بالحوثيين ليست علاقة تبعية مطلقة، وهي لا تتجاوز بعض الخبرات والدعم المحدود، وتطورت هذه السردية للقول إن دعم إيران يقتصر على تقديم الدعم اللوجيستي لتأجيج حربها منخفضة الكلفة على الخزانة الإيرانية ضد السعودية، وأن القرار الحوثي ما هو إلا قرار وطني مستقل. ومع الوقت تحقق الجميع من عمق العلاقة بين نظام الملالي والحوثيين، فطهران ممسكة بخيوط “الأراجوز الحوثي”، وتحركها بأي اتجاه تشاء. واليوم عادت أسطوانة القرار الحوثي المستقل لتتصدر المشهد، فعلى رغم الاتفاق السعودي – الإيراني، كثف الحوثي من عملياته العسكرية ضد مواقع الحكومة الشرعية في مأرب وجنوبها، وفي تعز، ولكنه كان مرناً في موضوع مفاوضات إطلاق الأسرى في جنيف، تأكيداً لتطلعه المستمر للتفاوض مع السعودية حول شروط إنهاء الأزمة اليمنية، وأنه صاحب القرار فيها.
وهذا بتقديري سيكون هو طرح المفاوض الإيراني في اللقاءات القادمة، من منطلق تمسكهم بعدم التدخل في شأن يمني، على رغم أنهم مع الحل، ولكنهم ليسوا أصحاب العصا السحرية في اليمن ولا يستطيعون فرض إرادتهم على الحوثيين، منطلقين من واقع وضع الميليشيات الحوثية المريح في السنة التاسعة للحرب، وضعف الوضع العام لمؤسسات الشرعية التي لم تنجح مخرجات “الرياض2” في توحيد صفوفها وشد أزرها، بل زادها الوضع تشظياً، ولم ينجز مجلس القيادة الرئاسي أي تقدم في أي من الملفات التي كلفها بعد مرور عام من تحمل المسؤولية الوطنية، وتجاوز مرحلة الرئيس هادي.
اليوم، المشهد الحالي في اليمن هو الأسوأ خلال السنوات الثماني الماضية، وهو مرشح لمزيد من التعقيد، وقد سبق أن أشرت إلى أن الحرب بامتداداتها الإقليمية ربما تنتهي في الأمد المنظور، ولكن الحرب الداخلية ستبقى على مراوحتها، وربما ازدادت اشتعالاً، فعلى رغم أن الاتفاق السعودي الإيراني سيعيد ترتيب الحسابات الإقليمية، فإنه لن يشكل بالضرورة حلاً ناجزاً للحرب الأهلية اليمنية، لأن ذلك يعتمد على الأطراف اليمنية ومدى استعدادها للخوض في استحقاقات السلام.
وفي واقع الحال، ما زالت الرياض ممسكة بإحكام بالملف اليمني، باعتباره شأناً استراتيجياً مرتبطاً بأمنها القومي، وهي تعتمد على وضعها الداخلي القوي، ومقدراتها الأمنية والعسكرية المتفوقة، وعلاقاتها الإقليمية والدولية الواسعة، فيما طهران تعاني العقوبات الدولية المفروضة عليها، ومن آثار الانتفاضة الشعبية لإسقاط نظام الملالي، وتبحث عن مخرج لأزماتها المركبة. ومع الأسف، فإن هذه المعادلة الإقليمية بين طرفي اتفاق بكين مقلوبة في الداخل اليمني، فالحوثي يشعر بنشوة النصر الذي لم يحققه على الأرض، وحلفاء الرياض في وضع صعب مع زيادة تشظي قوى مشروع استعادة الدولة، وبروز مشروع الانفصال بقوة وتحقيقه مكاسب في “الرياض2″، ويبقى التحدي الأكبر أمام الرؤية السعودية لإنقاذ اليمن في احتواء الظاهرة الحوثية.
وعلى رغم المليارات التي ضختها السعودية لصالح إغاثة الشعب اليمني والدعم اللامحدود، فإن ثقب الفساد الأسود حال، ولا يزال، دون وصولها إلى الناس في مختلف مناطق اليمن. وفي المقابل، يواصل الحوثي ابتزاز الجميع، وعينه على التوافقات التفصيلية التي يمكن أن تتمخض عن اللقاء القادم بين وزيري الخارجية، والجولات القادمة بين المفاوضين السعوديين والإيرانيين، وهو يدرك أن محاولاته في مسقط مع المفاوض السعودي فشلت في تحقيق تطلعاته، يعاود اليوم طرح رؤيته القديمة للحل في اليمن، معتقداً أن السعودية ستغادر اليمن في القريب العاجل، وسيبقى أمام اليمنيين إما القبول بمفاوضات استيعابهم ضمن رؤية حوثية للمصالحة الوطنية، أو حرب لا تبقي ولا تذر.
وحينما قلت مراراً إن السلام في اليمن سيكون صعباً، قصدت ذلك، لأن معادلة طي صفحة الحرب ستكون أكثر تعقيداً من معادلة نشوبها، والحالة الصومالية ماثلة أمامنا نستلهم دروسها وعبرها بعد ثلاثة عقود ونصف العقد من مأساة انهيار الدولة الصومالية. ويبقى الفيصل في حكمة القيادة السعودية واقتدار مفاوضها، الذي ينطلق من الإدراك العميق للبعد الاستراتيجي لليمن ضمن منظومة الأمن القومي العربي السعودي.
اندبندنت عربية