اليسار الإيراني واليسار العالمي وضرورة التغيير
أمير طاهري
“المطالبون بالملكية الدستورية يعملون لإلغاء اليسار الإيراني!”، سمعت هذا الادعاء الهزلي، أخيراً، من أحد النشطاء اليساريين في المنفى. على حد معرفتي لا يرغب أي من المطالبين بالملكية الدستورية بإلغاء اليسار أو أي خطاب فكري سياسي.
كانت حركة الملكية الدستورية منذ البداية ذات طابع شامل لأنها ثمرة نضال وتضحية وفكر ووعي نساء ورجال كانوا يبحثون عن أفضل طريقة في إدارة إيران، بشكل يكفل مصالح الشعب بعيداً من المواقف الحزبية البحتة.
المطالبون بإنهاء الفترة الحالية التي بدأت مع وصول المرشد السابق روح الله الخميني وحلفائه إلى الحكم لا يرغبون أبداً بتكرار الأخطاء المفجعة التي رافقت فترة ثورة الدستور وعلى رأس هذه الأخطاء المحاولة لإلغاء الآخرين من أجل ترسيخ أسس الاستبداد.
اليسار وفروعه المختلفة والمتناقضة أحياناً يعد أحد مظاهر الحياة السياسية في جميع أنحاء العالم ولا يمكن أن يكون إلغاؤه أو قمعه هدفاً للمطالبين بإقامة نظام دستوري إذ إنهم يروجون إلى تأسيس نظام يكفل الحريات الاجتماعية في إطار القانون المنبثق من إرادة الشعب، لكن أداء البعض ينطبق عليه المثل الإيراني “الكافر يعتبر الجميع على دينه”.
في جميع الفترات التي رافقت ثورة الدستور كانت إيران جارة لروسيا وفيما بعد جارة للاتحاد السوفياتي السابق، وكلا النظامين قدما نوعاً من الاستبداد. وكان الاتحاد السوفياتي السابق قبلة لليساريين الإيرانيين ولم نرَ منه إلا إطلاق ماكينة القمع وإلغاء الآخرين من ساحة العمل السياسي.
لنعود إلى بحثنا، فالمطالبون بالملكية الدستورية لا يرغبون بإلغاء “الحركة اليسارية” لأنهم يرون في التنافس السياسي مصالح من أجل ترسيخ الحرية، لكن هذه الحريات لا يمكن أن تكون مطلقة لأن الحرية للذئب يمكن أن تعني قتل الخروف. فحرية حمل السلاح في أميركا في الوقت الحالي تعني قتل الآلاف من الأبرياء في حالات إطلاق النار في المدارس والأسواق والنوادي والشوارع في الولايات المتحدة.
والحرية الإسلامية في النظام الإيراني تعني إسقاط مكانة إيران لتكون مباحة لأقلية تسعى لنهب المياه والتراب وثروات البلاد.
كان لليسار الإيراني أدوار خلال ثورة الدستور وفي مستقبل إيران يجب أن يكون له أدوار أيضاً، لكن قبول هذا المطلب رهن بقبول تغييرات في المجموعات والأحزاب والأفراد المنتمين إلى التيار اليساري. فتجربة اليسار في بلدان لديها نوع من الملكية الدستورية وتسود فيها الديمقراطية يجب أن تكون مثالاً لليسار الإيراني.
ربما من الأفضل ألا يتطرق من هو مثلي ويعتبرونه من الطواغيت إلى مثل هذه التجارب لكن وأنا أحمل القلم وأمارس الكتابة، لماذا لا يحق لي التطرق إلى هذه التجارب؟ كما أن مظاهر اليسار خلال العقود الماضية ظهرت في أفكار أفلاطونية تعتبر الناس مغفلين في الحياة وأنهم كقطيع من الغنم يحتاجون إلى راع.
لكن مصطلح “اليسار” بدأ خلال الحكم الجمهوري للرومان. فكان في تلك الفترة مجموعة من ثلاثة أشخاص هم كراسوس وبومبي وسيزار يتولون إدارة النظام الجمهوري تحت إشراف مجلس شيوخ ضم إقطاعيين ونبلاء.
وكان أنصار كراسوس يجلسون إلى الجانب الأيسر من المجلس لذلك أطلق عليهم “اليساريون” أو (Sinistra) وفي الوقت نفسه عرف هذا المصطلح بمعنى “الرهيب” لأن كراسوس الذي كان يملك محطة إطفاء الحريق الوحيدة في روما كان يطلب من عصابات تنتمي إليه إضرام النار في بعض أماكن المدينة حتى يضطر المواطنون إلى دفع كلفة لمحطة الإطفاء. وصل كراسوس في ما بعد إلى الحكم بعد قمع حراك العبيد لكنه قتل في الحرب مع إيران.
بعد قرون تحول مصطلح “اليسار” كمجموعة معارضة للوضع القائم خلال الثورة الدامية في فرانسا. وكان أنصار روبسبير وسان جوست يدعوان إلى قطع الرؤوس بواسطة المقاصل وأنصارهم يجلسون إلى الجانب الأيسر من المجلس الثوري.
أما معارضوهم (الجیرونديون) بقيادة دانتون فكانوا يجلسون إلى الجانب الأيمن من المجلس وكانوا يطالبون بوقف الإعدامات والالتزام بالقانون والسلام مع جيران فرنسا.
تلك السنوات المصيرية في الثورة الفرنسية، التي كانت أكثرها مأساة أدت إلى إيجاد تحول في أوروبا الغربية والعالم في ما بعد.
اليساريون كانوا ينظرون إلى المجتمع كورقة بيضاء ومن الممكن ترسيم المواثيق عليها طبقاً للطريقة الأفلاطونية أو سان سيمون وفوريه. وكان ماركس يمدح الثورة الفرنسية ويصفها بأنها تضمنت مواجهة طبقية وهذه المواجهة الطبقية تعد أساس تاريخ الإنسان.
بعد الثورات الفاشلة في عام 1848 سعى اليسار في أوروبا إلى التخلص من المواجهة الطبقية لكن لم يحقق نجاحاً. وفي الإمبراطورية النمسوية والألمانية في ما بعد انتبه اليساريون أن الطبقة العمالية لا تستطيع أن تصل إلى السلطة عبر الثورة ويجب عليها أن تنسى أمل الوصول إلى سلطة شمولية. أما المجتمعات الصناعية الحالية فلا تقبل أبداً “ديكتاتورية البروليتاريا”.
الثورة أو بالأحرى الانقلاب الروسي عام 1917 طرح لأول مرة شكوكاً حول هذه الفرضية، إذ وصل حزب إلى السلطة بحصوله على خمسة في المئة من الأصوات فقط في أول انتخابات في روسيا رافعاً شعار الثورة باسم “البروليتاريا”، لكن هذه الطريقة في الوصول إلى السلطة كشفت أكثر أساليب الحكم آنذاك، الوصول إلى السلطة بواسطة الاغتيالات والعنف.
خلال عقود طويلة انتبه اليساريون الأوروبيون أنه لا يمكنهم الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات تحت راية الشيوعية وبعد عام 1917 تحت راية اللينينية، لكن مع قبول الإطار الدستوري أو الديمقراطية السائدة بإمكانهم الحصول على حصة في الحكم. وكان اليسار في بريطانيا قد أدرك هذا الواقع جيداً واستطاع التخلص من أوهام الماركسية فوصل إلى الحكم بعد سبعة أعوام من انتصار البلشفيين في روسيا.
وكان زعيم حزب العمال آنذاك رامزي ماكدونالد أصبح أول رئيس وزراء لحكومة يسارية في بريطانيا، وقد أكد ضرورة التخلص من التصرف كمجموعة بعينها.
وفي ألمانيا بعد التمرد الدامي في انتفاضة سبارتاكوس وكارثة جمهورية فايمار و12 عاماً من الهيمنة المرعبة للوطنيين اليساريين والحرب العالمية قرر اليسار الألماني التخلص من الشيوعية ليخرج بمظهر قوة سياسية جديرة بإدارة البلد. واستطاع الحزب الاشتراكي الديمقراطي الوصول إلى الحكم عبر الانتخابات.
نقلا عن “إندبندنت عربية”