مقالات

الميليشيات العراقية… من الصواريخ إلى «الدرون»

داود الفرحان
 
في اليوم الثاني للغزو الأميركي للعراق في عام 2003 كان العراقيون يقفون في الشوارع يتفرجون على طائرات صغيرة تحلق على ارتفاع منخفض وصوت محركها يئز في الفضاء. وعرفنا بعد ذلك أن تسمية هذه الطائرة هي «درون» أي أنها بلا طيار، ويتم إطلاقها من مسافات بعيدة وتوجيهها إلى أهدافها إلكترونياً من غرفة قيادة العمليات الجوية، وتتولى المراقبة والتصوير والتجسس.
لكن هذه لم تكن المرة الأولى التي حلقت فيها طائرات «درون» في سماء العراق. حدث ذلك من قبل في عام 1991 خلال حرب الكويت باستخدام طرازي Pioneer وPointer للقيام بدوريات جوية على طول الحدود الكويتية مع العراق.
ويقول الخبراء في هذا النوع من الطائرات إن التوسع الأميركي باستخدام «الدرون» شمل العراق وأفغانستان وباكستان والصومال واليمن ما بين عامي 2008 و2016 في ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما. وحين بدأت ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب وافق على رسم سياسة جديدة تسمح بتوسيع استخدام «الدرون» خارج ميادين القتال التقليدية. ودخلت في عام 2019 إيران على الخط باستخدام طائرات مُسَيّرة من إنتاجها، حيث زَودت الانفصاليين الحوثيين في اليمن بها لقصف منشآت خليجية، وتصدت لمعظمها قوات الدفاع الجوي السعودية.
وردت الولايات المتحدة في مطلع عام 2020 باستخدام «درون» استثنائي من طراز «كيو 9 ريبر» في اصطياد قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» الإيراني عند أسوار مطار بغداد الدولي قادماً من دمشق، حيث تم تحميل الطائرة من دون طيار بصواريخ من نوع «هيل فاير»، ووجهتها إلى موكب سيارات خرج من مطار بغداد، فاغتالت سليماني وتسعة مرافقين له خلال دقائق.
وانتقلت العدوى إلى الحرب الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان، حيث بدأ عهد حرب الطائرات من دون طيارين، وهو ما وصفته مجلة «فورين بوليسي» الأميركية بأنه أحدث اختراق في التكنولوجيا العسكرية، وهي «الرصاصة السحرية» التي تجعل من المدرعات شيئاً عفّى عليه الزمن وربما تهزم الأنظمة المتطورة من مضادات الطائرات. لقد تغيرت قواعد الهجوم والدفاع الجويين. فحائط الصواريخ ربما لا يستطيع أن يَصُدّ «خلية نحل» طائرات مُسيّرة تأتي من عدة اتجاهات في وقت واحد، ما يتسبب في «عمى مؤقت» لا ينتهي إلا بعد فوات الأوان. ومن جهة أخرى يمكن أن يكون الفشل الذريع حصة «أسطول» من «الدرون» إذا أتى من جهة واحدة في وقت واحد ليقع في الفخ خلال دقائق.
مع كل الاهتمام بنجاح «الدرون» في مهامها، رغم الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها في بعض العمليات مثل قتل قرويين أبرياء مع حيواناتهم الداجنة، وهم في طريقهم إلى السوق في إحدى مدن أفغانستان، بدلاً من ملاحقة الثوار أو المتمردين، سمهم ما شئت، إلا أن سوق «الدرون» في تصاعد، و«هناك دائماً بائع عند أبواب الملعب».
لذلك فلا أحد يجادل خبراء الأسلحة بأن طائرات «الدرون» أسلحة تكتيكية أكثر مما هي هجومية، لأن اصطيادها سهل، وأهميتها أن يتم إطلاقها على هدف محدد حتى لو تم تدميرها. وأضرب هنا مثلاً بالطائرتين المدنيتين اللتين اخترقتا برجي التجارة العالمي في نيويورك في عام 2001 كأنهما طائرتان بدون طيارين؛ فهما يشبهان طائرتي «درون» بعد أن سيطر المختطفون عليهما فتحولتا في تلك الساعة إلى لعبة قاتلة.
من المزايا المعروفة عن «الدرونز» أنها صعبة الاكتشاف ويتكون معظمها من مواد غير معدنية ولها حرارة منخفضة لأن محركاتها الصغيرة تعمل بالبطاريات ولا يلتقطها الرادار ولا أجهزة الكشف بالأشعة تحت الحمراء. وهي تنفع في الفعاليات المدنية بالإضافة إلى مهامها الهجومية، مثل مكافحة الحرائق ومراقبة خطوط أنابيب النفط وكشف عمليات التهريب عبر الحدود وتحديد مواقع متسلقي الجبال خلال العواصف الثلجية، وكذلك المشاركة في إنقاذ السفن المهددة بالغرق عن طريق إرسال صور وخرائط إلى الجهات المعنية تحدد مواقع هذه السفن تمهيداً لإنقاذها. وتدرس بعض الدول، مثل ألمانيا، الاستعانة بالطائرات المسيّرة في مراقبة الأسواق والحدائق العامة ومدى التزام السكان بتعليمات مكافحة «كورونا» والتباعد الاجتماعي.
في السنوات الأخيرة لم تعد الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل تحتكر سوق الطائرات المُسيّرة، فالصين أصبحت منافساً قوياً في سوق الشرق الأوسط. وحسب المعهد الملكي للخدمات المتحدة البريطاني فإن بعض الدول العربية اشترت فعلاً هذه الطائرات من الصين التي تتعامل بمنطلق تجاري بحت، ما دفع الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في المسألة إلا أنها تضع شروطاً اعتادت فرضها في بيع الأسلحة الحساسة.
في عام 2000 كانت الولايات المتحدة تحتكر صناعة وبيع الطائرات المسيّرة. الآن وصل رقم العداد إلى 76 دولة بينها ما لا يقل عن خمس دول عربية تعمل على تطوير وتصنيع 900 نظام من أنظمة «درون»، وما زال البائع يقف عند أبواب الملعب.
الخبر الجديد أن الميليشيات الطائفية العراقية أرادت أن تقلد ميليشيات الحوثيين في اليمن، فذهبت إلى البائع الإيراني تطلب طائرات مسلحة بدون طيارين وخبراء إطلاقها لتوجيهها نحو السفارة الأميركية في بغداد والقواعد التي تستضيف قوات تدريب أميركية في أنحاء متفرقة من العراق، بدلاً من الصواريخ التي دأبت على إطلاقها بين حين وآخر في اتجاه تلك الأهداف بلا نتيجة. وفي ذهن قادة الميليشيات أن العملية سهلة وأن القوات الأميركية لن ترد على منفذيها، خصوصاً إذا تم قتل بعض العسكريين الأميركيين في تلك القواعد. ونقلت وكالة «أسوشييتد برس» عن الجنرال كينيث ماكنزي جونيور، القائد الأعلى للقوات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط قوله بأن «الطائرات المسيّرة المسلحة تشكل تهديداً خطيراً، وأن القوات الأميركية تعمل على قدم وساق من أجل ابتكار الوسائل المناسبة لمكافحة تلك الهجمات الجديدة». كما قال مايكل مولوري، الضابط الأسبق لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية كبير مسؤولي سياسات الشرق الأوسط في وزارة الدفاع الأميركية، إنه «من خلال التقنيات التي يوفرها (فيلق القدس) صارت الطائرات الإيرانية المسيّرة المسلحة أكثر تطوراً، وذات تكلفة منخفضة نسبياً». وأضاف أن «الطائرات المسيّرة من المشكلات الكبيرة، وهي من أخطر التهديدات التي تواجه الجنود الأميركيين في العراق الآن».
كلمة أخيرة إلى رئيس الوزراء العراقي القائد العام للقوات المسلحة: ليس دفاعاً عن قوات الاحتلال الأميركي، ولكن الشعب والرأي العام الدولي يحمل الدولة مسؤولية قتل أو جرح أي مواطن عراقي يذهب ضحية أخطاء طائرات «الدرون» التي بدأ «الحشد الشعبي» أو إحدى الميليشيات في إطلاقها على أهداف أميركية أو غير أميركية داخل العراق. يكفي العراقيين معاناتهم من الفساد العام والفقر والتهجير وقتل المتظاهرين واغتيال النشطاء وأزمات الكهرباء والمياه والخدمات العامة و«كورونا». يجب وضع ضوابط لاستخدام «الدرون» في مهام قوات متخصصة تابعة للجيش العراقي حصراً داخل العراق وخارجه بقرارٍ ملزم من القائد العام مهما كانت الأسباب لأن بعض الكحل يسبب العمى.
 
نقلا عن “الشرق الأوسط”

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى