التهديد الآتي من أفغانستان إلى إيران (الجزء الثالث)
حسن فحص
تراقب طهران بكثير من التفصيل والدقة تطور الموقف في افغانستان والتوسع الذي تحققه عناصر حركة طالبان وسيطرتها على اكثر من 80 في المئة من الأراضي والمدن والمناطق الأفغانية، واحدة تلو الأخرى وكأنها أحجار دومينو. تقدم حققته هذه الحركة إما عبر معارك محدودة مع القوات الحكومية المنهكة، وإما عن طريق تسويات عقدتها مع وجهاء وقيادات هذه المدن.
وعلى الرغم من هذا التقدم لحركة طالبان وسيطرتها على غالبية المناطق الشمالية والغربية بعد صعوبات واجهتها في التقدم في مناطق انتشار الإثنيات الأوزبكية والطاجيكية، وما يعنيه ذلك من انتشار بالقرب من الحدود المشتركة مع إيران. إلا أن طهران تبدو مطمئنة إلى عدم وجود نية لدى “طالبان” بالدخول الى العاصمة كابول والسيطرة عليها وما يعنيه ذلك من إسقاط للحكومة فيها بقيادة الرئيس أشرف غني. لكن هذه التطورات أثارت الكثير من الأسئلة حول هذا التحول والتساقط السريع والتوقيت الذي جاء فيه تحرك طالبان والدوافع والأهداف من وراء هذا الانتشار والسيطرة، في ظل محاولات محلية وإقليمية ودولية للإبقاء على قنوات الحوار مفتوحة بين الحكومة والحركة حول مستقبل أفغانستان وتقاسم السلطة والشراكة السياسية والأمنية بين الطرفين.
أمام هذه التطورات، ذهبت طهران إلى اعتبار أن التوسع الذي قامت به “طالبان” يأتي قبل أشهر من موعد الانسحاب الأميركي من هذا البلد، وأن الدافع وراء هذا الأمر لا يبتعد عن كونه اتفاقاً بين واشنطن وطالبان على فرض أمر واقع سياسي وعسكري جديد يعوّض الخروج الأميركي وخسارته للدور المباشر، والهدف الرئيس منه هو الضغط على الدول المعنية بالأزمة الأفغانية، خصوصاً إيران، وتحويل الانسحاب أو الخروج، إلى مصدر قلق وتهديد للأمن القومي واستقرار الحدود الشرقية.
هذه التحولات الخطيرة، رأت فيها جهات مقربة من مصادر القرار والقيادة العليا للنظام الإيراني، وفي موقف يتعارض مع قراءة مؤسسة “الحرس الثوري” العسكرية والمعنية مباشرةً بالتعامل مع الساحة الأفغانية، أن حركة طالبان الحالية تختلف عن “طالبان” عند ظهورها وسيطرتها في المرة الأولى، لجهة أن التقدم العسكري الذي حققته الحركة في المدن والمناطق الأفغانية لم يترافق مع عمليات قتل وذبح للمواطنين المختلفين معهم في القومية والمذهبية كما حدث عام 1998، أي أن “طالبان” الجديدة تختلف عن المثال الداعشي الذي شُهد في العراق وسوريا في السنوات الأخيرة، بخاصة أن دخول طالبان إلى المناطق الشيعية في مزار شريف لم يحدث فيه أي جرائم بحق أبناء المذهب الشيعي، بل اقتصرت المعارك على أطراف المدن مع القوات الحكومية. وهي معارك حاولت فيها “طالبان” تجنبها والبحث عن تسويات مع ممثلها الشعبيين والرسميين.
وذهب أنصار هذا الرأي في الداخل الإيراني إلى توجيه دعوة إلى أبناء قومية الهزاره من الشيعة في مزار شريف إلى عدم التورط والانضمام إلى الدعوة التي أطلقتها بعض الجهات الرسمية التابعة لحكومة كابول لتشكيل قوات شعبية لمقاتلة طالبان ووقف تقدمهم، حتى أن بعض هؤلاء اعتبر أن الزج بـ “لواء فاطميون” في التصدي لتقدم طالبان يُعتبر بمثابة مغامرة، خصوصاً أن هذا اللواء تم تشكيله بجهود من “فيلق القدس” وبهدف المشاركة في المعارك على الأرض السورية إلى جانب فصائل عراقية و”حزب الله” اللبناني دفاعاً عن النظام السوري. ويؤكد أصحاب هذا الرأي أن العناصر الشيعية التي قد تسقط في أي معركة بين القوات الحكومية و”طالبان” لا يُعتبرون ضحايا حرب طائفية ضد أبناء المذهب الشيعي، وأن هذه المعارك لا تستهدف المكوّن الشيعي، ومصلحة الشيعة هي في عدم المشاركة في هذه المعارك. خصوصاً إذا أخذت في الاعتبار أنه من غير المستبعد أن يكون تقدم “طالبان” تم أو يجري بالتنسيق مع الجانب الأميركي، وأن سيطرة الحركة على أفغانستان لن يكون بعيداً من أعين الأميركيين الذين عمدوا إلى بناء قاعدتين عسكريتين جديدتين في باكستان بالقرب من الحدود الأفغانية مهمتهما مراقبة التطورات الأفغانية والتدخل في اللحظات التي ترى فيها أن الأمور باتت على حافة الانهيار أو دخلت في الفوضى. بالتالي فإن ما يحدث ليس سوى تقسيم أدوار بين الطرفين يضمن لواشنطن الاحتفاظ بمواقع لها داخل أفغانستان عن طريق عودة “طالبان” التي سبق أن توصلت إلى تفاهم واتفاق معها في الدوحة أواسط العام الماضي 2020. وأن التقدم الذي تحققه طالبان سيسمح لها بالجلوس إلى طاولة التفاوض مع حكومة كابول وبيدها أوراق قوة كثيرة تسمح لها بفرض شروطها.
وينطلق أصحاب هذا الموقف من قراءةٍ للحدث الأفغاني تقوم على أن إدارة الحرب في أفغانستان خارجة عن إرادة الأطراف الداخلية، والجهات التي تشكل أطراف الصراع، بحال كانت الحكومة الرسمية أو حركة طالبان أو القوى السياسية والعسكرية الأخرى، لا تستطيع اتخاذ قرار بمفردها أو بشكل مستقل، وأن الذي يحدد أفق الحرب وجغرافيتها وقدرة أي من الأطراف على الحسم والتأثير في مسارات الأمور تتم من خارج الحدود وبتخطيط من قوى غير أفغانية، إقليمية ودولية. وهذا ما يفسر حالة الاسترخاء النسبي التي يمارسها الرئيس أشرف غني في التعامل مع هذه التطورات، وفي إدارة الدولة وكأن لا وجود لخطر يهدد بقاءها، لاعتقادهم بأبعاد هذه التطورات والحدود المسموح بها في التعامل معها سياسياً وعسكرياً.
أمام هذه التطورات، لا بد من طرح سؤال محوري حول الموقف الإيراني الرسمي من هذه التطورات، وهل سيقف عند حدود القول إن طهران تراقب بدقة التطورات المقلقة التي تشهدها أفغانستان، والدعوة إلى خفض التوتر فوراً واحترام سيادة القانون والحوار الشامل، واتهام واشنطن باتباع سياسات مخرّبة طويلة الأمد في المنطقة وأن تصرفاتها غير مسؤولة وستكبد طالبان خسائر أكبر، أم أنها ستلجأ إلى حراك دبلوماسي وأمني نحو الدول المعنية والمتأثرة سلباً وايجاباً من هذه التطورات، وكيف ستتعامل مع اللاعبَين الباكستاني والتركي اللذين يبدو أنهما المستفيدان من هذه التطورات، وإن كان بنسبة متفاوتة تحصل فيها باكستان على الحصة الأكبر.
اندبندنت عربية