أهم الأخبارمقالات

إيران وأميركا والبحث عن سُلم الوسطاء

حسن فحص

تقوم إستراتيجية النظام الإيراني التفاوضية مع الولايات المتحدة الأميركية على مبدأ أساس وهو التفاوض غير المباشر الذي يمهد للوصول إلى النتيجة النهائية أو التفاهم على جميع النقاط الخلافية، والتي تساعد في الانتقال إلى المرحلة النهائية خلال التفاوض المباشر، وهي الإستراتيجية التي اتبعتها سواء في “إيران كونترا” منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وصولاً إلى المفاوضات السرية التي استضافتها العاصمة العُمانية مسقط على مدى عامين قبل الكشف عنها عام 2013 والانتقال إلى جنيف والجلوس إلى طاولة الحوار مع السداسية الدولية (5+1) بمشاركة أميركية واضحة هذه المرة.

العقيدة الإيرانية، وقد تكون عقيدة أميركية أيضاً، في اعتماد التفاوض غير المباشر كمرحلة لإنضاج التفاهمات على مختلف المستويات، تنبع من حرص النظام الإيراني على عدم الوصول إلى طريق مسدود، وأن التفاوض غير المباشر يمنح القيادة الإيرانية إمكان البحث عن وسيط جديد أو مختلف لإعادة الحرارة لهذه المفاوضات، ويكون قادراً على تدوير زوايا الاختلافات وتقريب وجهات النظر، ولعل المفاوضات غير المباشرة التي تولتها كل من سلطنة عُمان ودولة قطر في عهد الرئيس السابق جو بايدن أسهمت في توصل الطرفين إلى تفاهمات، بداية حول تبادل السجناء والموقوفين وتحرير جزء من الودائع الإيرانية من البنوك الكورية الجنوبية، مروراً بالجهود التي بذلت من أجل عدم توسيع الأزمة التي نتجت من عملية “طوفان الأقصى” بين “حماس” وإسرائيل وتحويلها إلى حرب إقليمية واسعة.

ومع إدراك الجانب الإيراني أن المرحلتين الحالية والمقبلة لن تسمحا بهامش كبير للمناورة على دور دولة وسيط لإجراء مفاوضات غير مباشرة، وأن الأمور بين طهران وواشنطن بلغت مرحلة لم يكن من الممكن حلها سوى بالتفاوض المباشر، إلا أن هذه الحقيقة لا تسقط من إستراتيجية التفاوض دور هذا الوسيط، من أجل إعطاء الفرصة لإنجاح الخطوة الأخيرة في التفاوض المباشر، بخاصة أن التفاوض المباشر في حال فشله يعني إمكان إقفال كل الأبواب مستقبلاً، وأخذ الأمور إلى مستوى قد لا يرغب فيه أي من الطرفين، أقله فتح المواجهة على مصراعيها بما في ذلك إمكان المواجهة العسكرية.

الصدمة التي تلقتها القيادة الإيرانية، وتحديداً المرشد الأعلى، من المواقف التي اتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترمب وتوقيعه على المذكرة التنفيذية بالعودة للعقوبات المشددة، ووضع جميع الخيارات على الطاولة وحشر طهران بين واحد من خيارين، إما التفاوض واتفاق جديد على جميع الملفات، وإما الحرب التي ستكون مدمرة، جميعها دفعت المرشد إلى اتخاذ موقف تصعيدي وإقفال جميع الأبواب أمام حكومة الرئيس مسعود بزشكيان وإجباره على التخلي عن الليونة التي سيطرت على خطابه وما فيه من إيجابية، واستعداده للتفاوض المباشر مع نظيره الأميركي.

إيران وحروب المتشددين ضد الإنقاذ
معادلة “تضربون ونضرب” التي رسمها المرشد الأعلى في الرد على خيار الحرب للإدارة الأميركية، وأن هذه المفاوضات ستكون “غير عقلانية ولا شرف فيها”، كانت نتيجة الإحباط الذي أصاب القيادة الإيرانية من الشروط الصعبة التي وجدت نفسها في مواجهتها وفرضها ترمب عليها، على رغم أن جميع المؤشرات كانت تتحدث عن مفاوضات غير مباشرة قد بدأت بين الطرفين، وأن تقدماً قد حصل بينهما يذلل كثيراً من العقبات أمام التفاهم والاتفاق.

السقف العالي والصعب الذي وضعه الرئيس ترمب للتفاوض والذي يطمح إلى إجبار إيران على تقديم تنازلات أساس وإستراتيجية في ثلاثة ملفات، الأول المتعلق بتفكيك البرنامج النووي وفتح جميع مواقعها العسكرية والمدنية أمام فرق التفتيش الدولي، والثاني تفكيك البرنامج الصاروخي أو خفض مديات الصواريخ إلى مستوى 300 كيلومتر فقط، إضافة إلى الحد من فعالية سلاح الطائرات المسيرة، والثالث ملف النفوذ الإقليمي أو ما بقي منه وما فيه من علاقات إيرانية مع دول الجوار وبعض القوى المتحالفة معها.

هذا السقف من الشروط الأميركية اعتبرته طهران وقيادتها العليا بمثابة إعلان هزيمة واستسلام أمام الإدارة الأميركية، واعتراف بحجم الخسارة التي لحقت بمشروعها الإقليمي جراء التطورات التي شهدتها الساحتان اللبنانية وما أصاب “حزب الله” فيها، والسورية وانهيار نظام بشار الأسد وانتقال السلطة إلى القوى المعارضة له وللوجود الإيراني على الأراضي السورية، وهي تطورات إذا ما قبلت طهران بنهائية نتائجها فستكون بمثابة اعتراف بهزيمتها أمام الطموحات الإسرائيلية في الإقليم، وبالتالي انشكافها داخلياً وإقليمياً أمام تل أبيب.

هذه الشروط الأميركية جاءت في الوقت الذي كان الرهان الإيراني، وأجواء المفاوضات غير المباشرة التي سبقت، يدور حول اتفاق جديد يرتبط بالأنشطة النووية ومستويات التخصيب المرتفعة التي وصلت إليها إيران، واستعدادها للعودة لالتزاماتها السابقة التي وقعت عليها وقبلت بها في اتفاق عام 2015، والمتعلقة بمستويات التخصيب وحجم تخرين اليورانيوم ومهمات المفتشين الدوليين لمنشآتها النووية حصرياً من دون العسكرية والمدنية.

وعلى رغم المواقف التصعيدية من الطرفين، وليس آخرها ما صدر عن الخارجية الأميركية بالطلب من الحكومة العراقية وقف استيراد الغاز الإيراني، وكلام الرئيس الإيراني رداً على كلام نظيره الأميركي بأنه “لن يذهب إلى تفاوض تحت الضغوط ومحاولة الإذلال، وليفعل ترمب ما بدا له”، تحمل رغبة لدى الطرفين في التفاوض كل من منطلقاته الإستراتيجية الخاصة به، ولذلك يمكن القول إنهما لم يقفلا الباب تماماً أمام هذا الإمكان بل تركاه موارباً بانتظار التفاهم على وسيط جديد يعمل على تقريب وجهات النظر واختراع “السُلم” الذي يساعدهما في النزول والعودة للواقعية وعدم الذهاب إلى المواجهة.

وفي هذا السياق قد يكون الخيار الأميركي في الوساطة الروسية أكثر قرباً للواقعية، إذ إن واشنطن تأخذ بعين الاعتبار مستوى العلاقة التي تربط موسكو مع طهران، خصوصاً وأن معاهدة تعاون إستراتيجي تربط بينهما، فضلاً عن مشتركات كثيرة في كثير من الملفات، وفي المقابل فإن طهران تنظر إلى دور سعودي فاعل من دون أن يكون متعارضاً مع المهمة الروسية التي لم تعلن موقفاً منها حتى الآن، لأن طهران تنظر إلى الدور السعودي بما هو عامل مساعد يفتح مساراً جديداً لتعزيز الثقة المتبادلة، وفي توسيع علاقاتها وتعاونها الإقليمي مع محيطها العربي، وأن السعودية تشكل الضامن الموثوق لمثل هذه العلاقات والأقرب إلى الحساسيات الإقليمية والمخاوف الإيرانية في الوقت نفسه.

نقلا عن اندبندنت عربية

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى