مقالات

إيران هي روسيا… وواشنطن شنطة «تومي»!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نديم قطيش

روسيا دولة شرق أوسطية. هي كذلك بالنسبة لدول الخليج، عبر شراكتها الاستراتيجية في اتفاق «أوبك بلس» الذي يحدد مستويات إنتاج النفط. وهي كذلك بالنسبة لإسرائيل عبر شراكتها الاستراتيجية في سوريا وغرفة التنسيق التي تغطي الغارات الإسرائيلية والقصف الصاروخي على أهداف داخل سوريا.
وهي كذلك بالنسبة لعموم العرب منذ أن قرر فلاديمير بوتين عام 2015 التدخل العسكري في النزاع السوري لحماية نظام بشار الأسد والإمساك بالجزء الأكبر من قرار دمشق. ليس صدفة أن نظام الأسد هو النظام العربي الوحيد الذي أيد الاجتياح الروسي لأوكرانيا.
تزداد شرق أوسطية روسيا كلما تأكدت دول المنطقة من ثبات الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، ولو كان بتكاليف مهينة كالتي دفعتها واشنطن عشية انسحابها من أفغانستان.
ففي العواصم الجدية، لا خطوط هاتف مفتوحة بين الرئيس بوتين والعالم إلا في الرياض وأبوظبي وتل أبيب وبكين. أما خط الاتصال المفتوح بين الرئيس الروسي ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون فهو خط منطقي، يمثل فيه الأخير أوروبا كلها، التي تصر على أنها حتى الآن ليست في حالة حرب مع روسيا.
في العواصم الشرق أوسطية الثلاث اتصالات ببوتين متبوعة باتصالات بالرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي، ومحاولات للتسوية وبناء قنوات الحوار بعيداً عن منطق الاصطفاف الحاد حتى مع تحول الأزمة الأوكرانية إلى شبه أزمة وجودية بالنسبة للغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة. فما كان ممكناً احتماله من السيناريوهات الأولى، كتوغلات قليلة العمق أو خرمشات روسية حدودية، باتت وراءنا تماماً مع اتضاح حجم الطموحات التي يعبر عنها الرئيس بوتين. فمحاولة إسقاط عاصمة في أوروبا بقوة السلاح الروسي «لحظة تحول» كما وصفها المستشار الألماني أولاف شولتس.
مع ذلك، لم تغير التطورات في اندفاعة بوتين الأوكرانية الكثير من مواقف دول المنطقة، ما يعني أن شرق أوسطية روسيا لا تفسر تماماً المواقف الصادرة عن دول الخليج وإسرائيل في ملف الأزمة الأوكرانية.
ثمة إهمال ممنهج للمصالح يشعر به حلفاء واشنطن التقليديون، ما يخفف من رغبتهم في الاصطفاف دفاعاً عن مصالح الولايات المتحدة. لا حاجة لذكر الحوادث الأمنية والاعتداءات الاستراتيجية على مصالح هذه الدول، التي لم تلقَ من واشنطن إلا إدانات لفظية أو خطوات تجميلية. هنا تكمن الحرب الباردة الفعلية والجديدة، أي بين أميركا وحلفائها، الذين باتوا أكثر استعداداً وانفتاحاً على تنويع تحالفاتهم وعلاقاتهم التجارية والاقتصادية والتسلحية.
إذا أرادت واشنطن من دول الخليج وإسرائيل الوقوف الحاسم معها في أولوياتها ومصالحها، فعليها أن تقف معهم في أولوياتهم ومصالحهم. وعلى رأس المصالح المشتركة بين هذه الدول، المعالجة العاقلة للملف النووي الإيراني.
إيران بالنسبة لهذه الدول، هي روسيا المنطقة، بما تمثله روسيا بالنسبة لأوروبا وأميركا.
يشكو الغرب من أن موسكو تريد إعادة كتابة تاريخ أوروبا، وأنها تسكن ماضياً لا تريده أن يمضي، وأنها دولة لا تحترم أي التزام أممي حيال السيادة وعلاقات حسن الجوار. عداد الطعون الغربية بسلوكيات موسكو لا يتوقف. هي متهمة بالعدوان على الديمقراطية عبر محاولات التدخل السيبراني في الانتخابات للتأثير على النتائج. ومتهمة باستمالة ودعم الشعبويين الأوروبيين لتقسيم أوروبا من الداخل. ومتهمة بالسعي لإحياء الحرب الباردة وجدران العزل، وقضم دول الجوار وإعادة تأسيس الإمبراطورية الروسية، لا السوفياتية وحسب. ومتهمة بتربية ودعم الانفصاليين وتثوير الهويات الفرعية واللعب على حبال اللغة والإثنية والعرق وكل ما يعج به بطن التاريخ. بكل هذه المعاني التي يرى فيها الغرب روسيا، فإن إيران هي روسيا الشرق الأوسط.
للغرب روسياه. وللشرق الأوسط روسياه التي تقلقه. وما لم يكن الغرب شريكاً في عقلنة إيران وضبط سلوكها ورفع تكلفة عدوانها فلن يقف مع الغرب من هم قادرون اليوم على أن يكونوا جزءاً استراتيجياً من حل مشاكله.
هذه حقائق تولد من رحم الأزمة الأوكرانية التي تعيد تشكيل العالم ومن ضمنه الشرق الأوسط وعلاقاته.
السذاجة التي طغت على صناعة السياسة الخارجية الأميركية مدفوعة باستسهال إعلان نهاية التاريخ وممارسة التفوق الأخلاقي، والاعتقاد بأن دولة بوسعها أن تختار مشاكلها كما يختار رجل قمصانه وأن تهمل، جراء ذلك، كل قواعد التوازن والاستقرار، هي حزمة أوهام أعلنت أزمة أوكرانيا وفاتها.
لا تستطيع أميركا أن تختار مشاكلها. اختارت واشنطن بكين. لكن كان لروسيا رأي آخر فرضته على العالم. بالصواريخ والجيوش قال بوتين لأميركا وأوروبا: أنا مشكلتكما لا الصين. إلى ذلك، تنشط الصين وروسيا على مساحة الفراغ التي يخلفها الانسحاب الأميركي المتعجل من الشرق الأوسط، ما يعيد وضع الشرق الأوسط مرة أخرى على رأس أولويات القوى الدولية.
يشبه العقل السياسي الأميركي حقائب سفر «تومي» الشهيرة، التي ابتكرت عبقرية التجزئة، وتنظيم المحتويات. جيب للهواتف. محفظة الشواحن. غلاف للقمصان. علب للثياب الداخلية. أكياس مانعة للتسريب للعطورات والسوائل والكريمات. كل الأشياء محفوظة بعلب وأغلفة وأكياس لا يمس منه واحد الآخر ولا يتفاعل معه تأثُراً أو تأثيراً. وهكذا يقارب عقل واشنطن ملفات المنطقة.
من علامات التجزئة القاتلة في العقل الأميركي أن واشنطن تدرس فعلاً رفع «الحرس الثوري» الإيراني عن لوائح الإرهاب، كما رفعت الحوثي قبلاً. وفيما تدرس هذا القرار لا ترى ضرراً من الاتصال بالسعودية لدرس ضخ المزيد من النفط لتنزيل الأسعار، التي ارتفعت بعد أزمة أوكرانيا.
تسعى للاثنين معاً بلا ذرة تردد أو شك.

الشرق الأوسط

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى