أخطأنا.. فلنعترف ونصحّح
زكي رضا
طبيعي أن يخطئ المرء هنا أو هناك، لكنّ غير الطبيعي هو عدم الاستفادة من أخطائه. وما ينطبق على الفرد ينطبق على الأحزاب والمنظمّات، بل وحتّى الشعوب. فأخطاء حزب أو منظمّة أو حتّى شعب ستستمر وتؤدي إلى نتائج كارثيّة ما لم يستعد ذلك الحزب أو تلك المنظمّة أو ذلك الشعب وعيه، ليس بنقد تلك الأخطاء فقط، بل العمل على تشخيصها وبحثه المستمر لتجاوزها في المراحل التالية من نشاطه ونضاله.
لقد كانت انتفاضة تشرين – أكتوبر العراقيّة حدثا كبيرا في تاريخ نضالات شعبنا. وعلى الرغم من عدم نجاحها في تغيير شكل اللوحة السياسية بالبلاد، إلّا أّنها تبقى خزينا ثوريا علينا تطويره وتغذيته بالمزيد من طاقات الجماهير المتضرّرة للإسراع بإنقاذ البلاد من شرور المحاصصة الطائفية القومية، التي تكرّس هيمنتها وتمسك بيد من فولاذ على مقاليد السلطة يوما بعد آخر بل ساعة بعد ساعة.
حينما كانت الانتفاضة في عزّ عنفوانها، وحينما كانت الآمال معقودة على شابّات وشبّان رسموا خارطة وطنهم عاليا في السماء، وحينما كان “الطرف الثالث” يقتل ويغتال ويجرح ويطارد ويغتصب هؤلاء الشابّات والشبّان، ظهر استنتاج سياسي لدى العديد من القوى السياسية والكثير من المتابعين لما كان يجري وقتها، بأنّ عراق ما قبل الانتفاضة هو ليس كما عراق ما بعد الانتفاضة، فهل تحققت تلك الأمنية؟
أثناء الانتفاضة وبعدها رُفعت العديد من الشعارات المركزية، منها تقديم قتلة المتظاهرين للعدالة، تغيير القوانين الانتخابية لتكون عادلة، مكافحة الفساد، تحقيق العدالة الاجتماعية، “نريد وطنا” وغيرها. فهل تحقّق شعار واحد من تلك الشعارات التي ذهب ضحيتها المئات بين شهيد وجريح ومعاق ومختطف، لنقول إنّ عراق ما قبل الانتفاضة هو ليس عراق ما بعد الانتفاضة؟
لم يتم إلى اليوم تقديم القتلة وهم ميليشياويون على صلة بعواصم محليّة، للقضاء، بل على العكس فقد تمّ تكريم القتلة. أمّا القوانين الانتخابية التي طالب المنتفضون ومعهم أحزاب ديمقراطية ومنظمات مجتمع مدني بتعديلها لتكون أكثر عدلا، فقد ترجمتها القوى التي قمعت الانتفاضة بقوانين فُصّلت على مقاساتها ومقاس ميليشياتها لتكون لها الأغلبية المريحة جدا في البرلمان، كونها تمتلك الأغلبية أساسا بعد تبادل أدوارها لتكون أغلبية سياسية في برلمان يحتله فاسدون. أمّا محاربة الفساد، فقد ترجمتها قوى القمع إلى استمراره ليلتهم خزينة البلاد، وما سرقة القرن إلّا إحدى دلالات هذه القوى على استهتارها بدماء شهداء تشرين وشعبنا بشكل عام.
العدالة الاجتماعية عند أقطاب السلطة تعني توزيع الكعكة بين أحزابها وليس بين المواطنين الذين يعيش ثلثهم تحت مستوى خط الفقر، وفق إحصاءات رسمية. ويبقى شعار “نريد وطنا”، هو الشعار العصي على التنفيذ في ظل سلطات لا تعرف كتابة اسم وطن على سبورة في صف مدرسي بمدرسة خربة آيلة إلى السقوط.
أوضاع ما بعد الانتفاضة أسوأ من أوضاع ما قبل الانتفاضة، وهذه حقيقة يعرفها المنتفضون والشارع العراقي الذي يعيش أزمات مختلفة. وقولنا هذا ليس حالة من اليأس على الرغم من أنّ اليأس مبرر لتوفّر كل عناصره في الحياة العراقية على مختلف الأصعدة. إنّ ضرب وطرد نوّاب منتخبين من قبل ميليشيات السلطة وتحت قبّة البرلمان، كي لا يصوّتوا ضدّ قانون سانت ليغو المعدّل والذي سيعدّل في كل دورة انتخابية ما يتيح هيمنة قوى الفساد على السلطة، لا يعنيان استهتار وقمع أحزاب السلطة وميليشياتها فقط، ولا ضعف قوى التغيير الديمقراطيّة فقط، ولا صمت جينين بلاسخارت التي يطلق عليها العراقيون تهكما كنية “أم فدك” ومؤسستها الأممية عن تجاوز السلطة على أبسط الحقوق الديمقراطية التي تعتقد المؤسسة الأممية بأنها قائمة بالعراق، بل يعنيان استمرار حالة اليأس عند المواطنين وعزوفهم عن نضال عليهم خوضه من أجل تحقيق أهداف انتفاضة تشرين.
على القوى السياسية المؤمنة بالتغيير أن تتقدم هذه الجماهير اليائسة والباحثة عن حياة كريمة في وطن يتسّع للجميع، باصطفافها ووحدة برامجها وتجاوز خلافاتها ومناكفاتها وأنانيتها. فالوقت ليس في صالح جماهير شعبنا وقوى الفساد ترسّخ مواقعها في السلطة. وهذه القوى أي الديمقراطية عليها دراسة الشارع العراقي دون عقد آمال أكبر حجما من إمكانياتها. فخسارة الانتخابات هذه المرّة أو الحصول على نسب صغيرة غير مؤثرّة في اتّخاذ القرارات وتغيير ولو بسيط في شكل السلطة، سيرسّخان الإحباط واليأس من أي تغيير عند جماهير هذه الأحزاب وعموم جماهير شعبنا. ويبقى أمام هذه القوى هدف أكبر وهو تنظيم الصفوف ووحدة الخطاب السياسي والعمل اليومي بين الجماهير، لحشدها وتهيئتها للمعركة الفاصلة، أي انتفاضة أكثر قوّة واتّساعا من انتفاضة تشرين، وفي الحقيقة فإنّ الانتفاضة المنظمّة هي طريق خلاص شعبنا من الحكم الفاسد وليس الانتخابات، التي وضعت قوانينها لتدوير نفس الطبقة السياسية لتكون مالكة القرار من جديد.
أثناء الثورة الفرنسية رفع أونوريه غابرييل ريكويتي المعروف بميرابو شعار “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسّيس”. وأثناء انتفاضة تشرين ومن وحي هذا الشعار رفع أحد المنتفضين وتحت جدارية جواد سليم في ساحة التحرير لافتة تقول “نتمنى أن يُشنق آخر سياسي فاسد بعمامة آخر رجل دين فاسد”. ولأننا نعمل كعراقيين لبناء نظام ديمقراطي حقيقي لا مكان للعنف ومصادرة الحريات فيه، فالقضاء هو الذي عليه محاكمة الفاسدين لا الجماهير المحبطة واليائسة والمتذمرة.
العرب اللندنية