أهم الأخبارمقالات

ماذا بعد استعراض القوة الأميركي؟

 

طوني فرنسيس

لا يتوقع أن يتخطى الرد الأميركي على هجوم “البرج 22” حدود توجيه الرسائل القوية للميليشيات التي قصفت الموقع التابع لواشنطن في الأردن وأوقعت فيه ثلاثة قتلى ونحو 40 جريحاً من العسكريين، الرد الذي توعدت الولايات المتحدة بأنه سيستغرق أياماً وربما أسابيع سيبقى ضمن “قواعد اشتباك” رسمتها واشنطن لنفسها منذ اندلاع حرب غزة، بل وقبل ذلك، وفرضتها بطريقة ما على اللاعبين الآخرين وفي طليعتهم إيران قائد وممول “محور ميليشيات المقاومة” الذي يتولى التصدي للوجود الأميركي، قبل غزة وبعدها، وشعاره طرد الأميركيين من مناطق النفوذ الإيراني في غرب آسيا، تمهيداً لتنفيذ وعد الخميني منذ 40 عاماً بتحرير القدس.

ضمن قواعد الاشتباك هذه بدأت أميركا هجمات على مواقع الحوثيين في اليمن، وقصفت مواقع الميليشيات على طول نهر الفرات والحدود العراقية- السورية، وتجنبت بدقة الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع طهران، فلم تتعرض لمواقع الحرس الثوري داخل إيران، ولا قامت بما تقوم به إسرائيل من استهداف مباشر لقادة وعناصر الحرس الإيراني في سوريا، على رغم اتهامها له بالوقوف وراء الميليشيات التي تستهدف قواتها ومدهم بالسلاح والصواريخ والمسيرات، ومنها المسيرة التي قتلت الجنود الثلاثة.

تكرر الولايات المتحدة في قصفها مواقع داخل سوريا والعراق واليمن ما تفعله إيران من وقت إلى آخر في توجيه ضربات إلى كردستان العراق وأخيراً إلى سوريا وباكستان. فهي كما إيران تتجنب مواجهة خصمها “الفعلي”. إيران تتهم إسرائيل وأميركا بتوجيهات كرمان فتقصف أربيل وإدلب، وأميركا تتهم إيران بتنظيم الهجمات ضد قواتها فتقصف شرق الفرات، وبهذه الطريقة يتجنب الطرفان حرباً مباشرة لكنهما يتركان الباب مفتوحاً أمام حروب الأذرع التي ستواصل تحديها للقوة العظمى في الزمان والمكان المناسبين.

اختارت إدارة الرئيس جوزيف بايدن طريقتها في الرد على التحدي الإيراني، ولم تكن هذه هي الطريقة التي يريدها خصومها في خضم معركة رئيسة حاسمة. في الحزب الجمهوري وفي أوساط سياسية وبحثية كثيرة ومؤثرة رغبة صريحة في توجيه ضربات مباشرة لإيران. يلخص موقع “فوكس نيوز” نظرة هؤلاء بالقول إن إيران تجاوزت الحدود و”فرصة ترويضها بإجراءات حاسمة تتضاءل”.

وبحسب الموقع المذكور فإن “طهران تنظر إلى إدارة بايدن كإدارة تتجنب المخاطرة” فهي على رغم أكثر من 170 هجوماً تعرضت له قواتها تخرج بتصريح يقول لا نسعى إلى الحرب مع إيران، وفي الأثناء تعتمد طهران على ثقتها المتزايدة في القدرة الوشيكة لردعها النووي، وعلى ترسانتها من الصواريخ والطائرات المسيرة لإبقاء القوات الأميركية في المنطقة عرضة للخطر.

وتخلص “فوكس نيوز” إلى أنه بمجرد أن تكتسب إيران القدرة التشغيلية اللازمة لتوجيه ضربة نووية إلى إسرائيل وأوروبا ثم أميركا، سيكون من المستحيل إعادة ترسيخ الردع من دون قبول خطر اندلاع حرب أوسع نطاقاً”، لذلك يخلص الجمهوريون وأوساط أخرى إلى القول “لقد حان وقت العمل ضد إيران”، ويذهب بعضهم، في حال عدم حصول ذلك، إلى اتهام الإدارة بـ”التواطؤ” مع إيران، حتى أنهم يتساءلون عن الأسباب التي تجعل الإدارة تسكت عن الأسباب الخفية التي دفعتها إلى إبعاد روبرت مالي المفاوض في الملف النووي الإيراني، وعدم الكشف عن مبررات عزله، في اتهام لها ولإدارة أوباما السابقة بمغازلة إيران والامتناع عن ردعها ووقف توغلها في الإقليم منذ مطلع العقد الثاني من هذا القرن.

ترد الإدارة الراهنة بالقول إن خطاب المعارضة هو غيره خطاب السلطة، وهي إذ تتحمل المسؤولية ستواصل سياسة عدم الانجرار إلى استفزازات من يريد لها الغرق في حروب المنطقة، مع تأكيد إبراز عناصر القوة في عالم مليء بالتحديات. فتحرك القاذفات الاستراتيجية من أميركا إلى أجواء سوريا والعراق، وحده يحمل رسائل لا إلى إيران وحدها، وإنما إلى روسيا التي تمسك بموقع أساسي في سوريا، وعادة ما يجري إبلاغها بحركة الطائرات الحربية عبر خط ساخن أقيم منذ سنوات بين الروس والأميركيين في هذه البلاد.

في جنوب البحر الأحمر تتحرك القوات الأميركية في ظروف مشابهة. هناك أيضاً يقف منافسو أميركا الصينيون متفرجين من قاعدتها في جيبوتي على استعراض القوة الأميركي الذي لا يخلو في خلفياته من الرغبة في إبراز عناصر القوة في التنافس القائم بين بكين وواشنطن.

غير أن كل ذلك يبقى قاصراً إذا لم يترجم في معالجة جدية للأزمة الإقليمية التي يغذيها استمرار الحرب في غزة ودعم أميركا الكامل لإسرائيل فيها. ففي حدود الضربات المنفذة تكون السياسة الأميركية قد قدمت خدمة لخصومها الذين سيعلون الصوت في مواجهة الإمبريالية والصهيونية، ويمكن للحوثي أن يفاخر بإغلاق البحر الأحمر ولـ”حزب الله العراق” أن يواصل قصف القواعد الأميركية ولـ”حزب الله” اللبناني أن يفتح جبهة في لبنان.

كل هؤلاء بقيادة المايسترو الإيراني قالوا ويقولون إن معركتهم مفتوحة حتى إقرار وقف إطلاق النار في غزة، وليس غير بايدن من هو قادر على إجبار إسرائيل بذلك.

في الواقع تختصر غزة والصراع حولها قسماً كبيراً من المشكلة الإقليمية المحتدمة في شروطها التاريخية والراهنة. فإذا كان بايدن يرغب بتجنب حرب مع إيران تردعها عن التدخل في شؤون جيرانها، فإن سياسته الفلسطينية قد تكون المفتاح الأساسي لتعرية الخطاب الإيراني ودفع طهران إلى ما وراء شط العرب. كثيرون يدافعون عن هذا الرأي. بعضهم يروج لـ”عقيدة بايدن” وفحواها دفعه إلى السير في تسوية شاملة للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بالتالي العربي- الإسرائيلي، وقوامها إنهاء الحرب ومشاريع الإبادة الإسرائيلية والسير الجدي في طريق إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة إلى جانب إسرائيل.

لقد جعلت حرب غزة بايدن وإدارته يعودون إلى إحياء فكرة الدولتين التي لا تنقصها المرجعية القانونية الدولية والعربية، فهي واردة في مقررات الأمم المتحدة وفي المبادرة العربية التي طرحتها السعودية وأقرتها قمة بيروت عام 2002، كما أنها تتمتع بدعم دولي يجمع تحت لوائه دولاً كبرى من الصين والهند وروسيا إلى الاتحاد الأوروبي.

ستوفر اتفاقات وقف النار وتبادل الأسرى التي يجري العمل عليها بقوة خلال هذه الأيام، فرصة لبلورة مسارات “اليوم التالي” الذي كثر الحديث عنه، ومن أجل هذا اليوم لا يمكن الاستمرار بالسماح في حروب التدمير والتهجير ولا بمعاقبة وكالة غوث اللاجئين.

يمكن للولايات المتحدة أن تواصل ردودها على الميليشيات الإيرانية، وهي هددت أن عملياتها ستستمر ضد تلك الميليشيات، من دون أن تصطدم براعيها الإقليمي، لكن ما ينتظره منها العرب والفلسطينيون يختلف تماماً في سلم الأولويات. فالعرب ينشدون علاقات سلام وعدم تدخل في الشؤون الداخلية لبلدانهم، وحلاً عادلاً لقضية الشعب الفلسطيني، والولايات المتحدة التي تربطها علاقة أبوة بإسرائيل، هي وحدها القادرة على الضغط عليها وجعلها تنضبط تحت سقف القانون الدولي وموجباته، وفي هذه الحالة فقط يمكن وضع حد للاستثمار الإيراني المشبوه في قضية العرب الأولى، وتمزيق بلدانهم باسمها، خدمة للمشاريع الفارسية التوسعية.

تتزامن التظاهرة الأميركية العسكرية في نواحي سوريا والعراق واليمن مع جولة خامسة في المنطقة يقوم بها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن.

في هذه الجولة سيعمل كما قيل على تطبيق الاتفاق المحتمل بين إسرائيل وحركة “حماس”، إلا أن الاكتفاء بهذا الهدف لن يكون مقنعاً بعد تطورات المعركة في غزة وتفاعلاتها الإقليمية، فقد حان الوقت للولوج إلى صلب الموضوع والبحث الجدي بما سماه بلينكن نفسه “السلام الدائم”، بما في ذلك تحقيق أمن مستدام للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء”.

ولتحقيق ذلك لا طريق آخر غير حل الدولتين وقيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل. هذه الفكرة تتقدم. ففي واشنطن أصدر بلينكن تعليماته لأركان وزارته “بتطوير خيارات للاعتراف بفلسطين”، وفي لندن يتحدث وزير الخارجية ديفيد كاميرون علناً عن التفكير بدولة فلسطينية.

لقد بات التحول في مواقف الدول الغربية واضحاً نحو الإقرار بتسوية الدولتين. نتنياهو ومتطرفو حكومته يمانعون، لكن وكما يقول محللون إسرائيليون قد يكون على أميركا هذه المرة اتخاذ القرار عن الإسرائيليين!

 

نقلاً عن اندبندنت عربية

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى