لا مصلحة لإيران في اتفاق لبناني إسرائيلي حول الحدود البحرية
طوني فرنسيس
خلال الأسبوعين الماضيين استراحت المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية في شأن ترسيم الحدود البحرية، وغاب الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين عن الأنظار لتطل في المقابل سلسلة أحداث إقليمية ودولية ترتبط جميعها بإيران ودورها في المنطقة وسياستها العامة تجاهها .
فقد عاد الاتفاق النووي في هذين الأسبوعين إلى الواجهة مع تقديم الجانب الأوروبي ورقته للعودة إلى الاتفاق وتلقيه الجواب الإيراني بما يوحي بعدم القطع مع عملية التفاوض الجارية في فيينا .
ونشبت حرب صغيرة في غزة بين إسرائيل ومنظمة “الجهاد الإسلامي” التي كان زعيمها زياد النخالة يجري مباحثات في طهران راعية التنظيم الفلسطيني من بين سلسلة تنظيمات على امتداد الإقليم تنضوي تحت قيادة محور الممانعة الإيراني.
وفي هذه الأيام القليلة كشفت الولايات المتحدة الأميركية عن خطة إيرانية لاغتيال المسؤول الأميركي السابق جون بولتون قبل أن يحاول شاب من أصل لبناني “معجب” بالخميني قتل الكاتب سليمان رشدي قرب نيويورك، لتتولى إيران الإشادة بـ”المطيع” الذي نفذ فتواها محملةً المسؤولية لرشدي والمدافعين عنه.
بدا الترسيم اللبناني الإسرائيلي في هذه الأيام الأخيرة بعيداً، والخطوط البحرية التي يجري البحث عنها غارقة في بحر الحسابات الإسرائيلية والمطامح الإيرانية. وفيما لم يتحدث المفاوض اللبناني الرسمي عن مآلات ذلك الترسيم استمر حسن نصر الله زعيم “حزب الله” خطيباً وحيداً في الميدان ليجزم في آخر إطلالاته أن لا علاقة بين الترسيم والاتفاق النووي الإيراني، مؤكداً في الوقت عينه نشأة حزبه على يد الحرس الثوري وعمق ارتباطه بإيران ووليها.
أراد نصر الله القول إن تحذيراته لإسرائيل في شأن حقوق لبنان البحرية إنما تنطلق من مصالح لبنانية خالصة ولا علاقة لها بموقف إيراني يهدد إسرائيل بالزوال بين الفينة والأخرى، وإيران لم تتحدث كثيراً في الواقع عن مفاوضات الترسيم، لكن إسرائيل المعنية مباشرة مستمرة في بلورة موقف لن يكون في مصلحة إيران وحساباتها في المديين القريب والبعيد.
منذ مطلع أغسطس (آب) الجاري تتحدث إسرائيل عن إمكان التوصل لاتفاق مع لبنان بحلول شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، وبحسب صحيفة “هاآرتس” فإن المسؤولين الإسرائيليين سيرجئون “استخراج الغاز من حقل كاريش إلى ما بعد سبتمبر” وبعد توقيع الاتفاق. وفي اجتماع للحكومة الإسرائيلية المصغرة “أجمع مسؤولو الأجهزة الأمنية على أن عدم التوصل إلى اتفاق مع لبنان قد يؤدي إلى تصعيد أمني على الحدود الشمالية يتمثل في معركة تستمر لأيام عدة”، ورأى هؤلاء أن “التصعيد الأمني هو البديل الوحيد للاتفاق” فيما اعتبر رئيس الأركان كوخافي أن “حسن نصر الله يعتزم استخدام الاتفاق كصورة انتصار لحزبه على صعيد الساحة اللبنانية الداخلية، إذا كانت النتيجة في نهاية العملية التفاوضية عدم التوصل إلى اتفاق، وفيما تبدأ إسرائيل استخراج الغاز ولا يستفيد لبنان منه فإن مستوى الانفجار سيكون عالياً”.
في موازاة التقييمات هذه برزت خطوة إسرائيلية ذات مغزى تمثلت بطلب إلى محكمة العدل العليا لتقرر وجوب إقرار نتائج المفاوضات مع لبنان في استفتاء شعبي .
هذا المطلب ليس جديداً، بل سبق أن طرحه في سياق المفاوضات بنيامين نتنياهو ويوڤال شتاينتس “فقد فهما هما أيضاً أهمية الإجماع على خط الحدود البحري مع دولة عدو يسيطر عليها التنظيم الإرهابي الأكبر في العالم” على قول بن كسبيت في “معاريف”. ويمضي الكاتب قائلاً نقلاً عن مصدر سياسي إسرائيلي، “حتى لو اضطررنا إلى التخلي عن أربعة في المئة من حقل كهذا في نهاية المداولات، فإن أهمية وجود حقل لبناني وطوافة تنقيب لبنانية في هذه المنطقة هائلة. معنى الأمر هو هدوء تام وبوليصة تأمين ضد الإرهاب ومحاولات العمليات في اللحظة التي تكون فيها للطرفين مصلحة اقتصادية واضحة ودراماتيكية جداً في منطقة واحدة فإن كليهما يحيدان”.
يقتضي الوصول إلى هذه النتيجة عدم إصرار إسرائيل على اعتبار حدود الحقول البحرية حدوداً سياسية نهائية في تكرار لتجربة الخط الأزرق البري، ولكن النتيجة في واقع الأمر ستكون تهدئة وتطبيعاً محكوماً بالمصالح المتوازية وهو ما يطرح السؤال عما يمكن أن يكون عليه الموقف الإيراني الحقيقي في هذه الحالة، خصوصاً مع استمرار إيران في استخدام الجنوب اللبناني منصة للتوتر الدائم والتهديد المديد بإزالة “الكيان الإسرائيلي”.
ترى أوساط سياسية مطلعة على خلفيات موقف القيادة الإيرانية أن موضوع الترسيم اللبناني الإسرائيلي يرتبط بما تراه هذه القيادة من دور استراتيجي لها في المنطقة أكثر مما يرتبط بالملف النووي ومفاوضاته، وفي ما قاله نصر الله عن ذلك كثير من الصحة.
في الأساس رفضت إيران أي ربط بين مفاوضاتها النووية وسياستها الإقليمية، أي دورها في بناء مواقع النفوذ داخل البلدان العربية. وفي ما يخص لبنان، حيث تعتبر “حزب الله” “درة تاجها” فإنها ترى في أي اتفاق مع إسرائيل، بما في ذلك خصوصاً الترسيم البحري المطروح، خسارةً استراتيجية لمشروعها العام، فمثلما لم يناسبها انتصار مقتدى الصدر الانتخابي في العراق، ولا يناسبها اتفاق سياسي في اليمن، ترى إيران أن لبنان ساحةً غير جاهزة للإقفال، بل يجب أن تبقى جبهة محتملة حتى الانتهاء من معالجة جميع الإشكالات الإيرانية في العلاقة مع المجتمع الدولي. هذه النظرة الإيرانية إلى موقع لبنان لا تلغي بطبيعة الحال حرص طهران على توطيد مواقع أنصارها في مفاصل السياسة الداخلية، لكن الترسيم مع إسرائيل بما هو من “تطبيع واقعي” ليس فيه الآن ما يرضي إيران، بل هو نكسة لمشاريعها، بمعزل عن مصالح لبنان الآنية والبعيدة المدى. لذلك فالأرجح أن يطول الأخذ والرد في التفاوض اللبناني الإسرائيلي من دون التوصل إلى نتائج حاسمة وفي الأثناء تكثر التحليلات والاجتهادات وتكون إسرائيل واصلت إنتاج وتصدير الغاز، ولبنان ينتظر فك أسره وأسر دولته وإيران ممسكة براية التحرير والممانعة والمقاومة.