الطريق لمساءَلة الخُمينية السياسية وتجاوزها!
حسن المصطفي
انتصار الثورة الإسلامية في إيران، في عام 1979، حدثٌ مفصلي في الشرق الأوسط، وهو رغم أهميته في ذلك الوقت على أكثر من صعيد، إلا أن خطاب الزعيم الروحي للثورة آية الله الموسوي الخميني، لم يُقرأ بشكل نقداني علمي في كثير من الكتابات المنشورة عربياً، رغم أنها ليست بالقليلة، حيث يمكن القول إن رهطاً من أربابها وقعوا بين ثنائيتين: التقديس والتدنيس. أي أن “الخمينية” كظاهرة دينية – سياسية، وما أفرزته من تمظهرات في الخطاب والحياة اليومية، بقيت إما محل تبجيل مفرط إلى حد “العصمة” لدى المغالين في حُبها، أو شيطنة مطلقة لدى مبغضيها، وكلا الفريقين بعيدان عن الاشتغال العلمي الهادئ، الذي يسعى لرصد الظاهرة أولاً، وفهمها ثانياً، وتفكيكها ثالثاً، ليحللها تالياً وتقديم قراءة لما فيها من عناصر قوة وضعفٍ، ومن ثم استنتاج رؤية بصيرة لكيفية التعامل معها ونقدها والتحرر منها.
من هنا، فإن “الخمينية السياسية” التي تُعتبر الرافعة الرئيسة حالياً لتيارات “الإسلام السياسي الشيعي”، هي ظاهرة مركبة، معقدة، يتداخل فيها الديني بالسياسي والأمني والاقتصادي، وفيها من حمولاتِ التأريخ الماضي وصراعاته المذهبية الشيء الكثير!
المدائح والشتائم، الحب والبغض، ثنائيات لا تصلح لبناء وعيٍ موضوعي، بل تقود نحو مزيد من التخندق والتحزب والعواطف الجياشة التي تحجب العقلانية في التحليل.
الكاتب محمد الحرز، نشرَ مقالاً في صحيفة “اليوم” السعودية، بعنوان “الخمينية من تقديس الخطاب إلى تقديس الشخص”، في 9 أيلول (سبتمبر) 2022؛ رأى فيه أن “الخمينية” تمكنت من أن “تنزع قدسية الخطاب المتصل بالأساس باجتهاد المرجع، الذي يظل اجتهاداً بشرياً في نظر مقلديه، وبالتالي هناك حدود فاصلة بين خطابه وشخصه، وتضع بدلاً منه قدسية الشخص المتماهي مع شخص الإمام نفسه، ومن ثم تصل بهذه القدسية إلى أعلى مراتبها في شخص ولي الفقيه”.
من هنا نجد التماهي بين مكانة المرجع وشخصه، وأيضاً شخص المرجع وأدواره، فيما أضافت “ولاية الفقيه العامة” بعداً جديداً أكثر خطورة، وهو أن لهذا الفقيه الذي تتوافر فيه الشروط، صلاحيات أوسع، لا تقتصر على “الأمور الحسبية” المقيدة في كتبِ الفقه، وإنما جعلته مستمداً لتلك المميزات مما كان لدى الإمام “المعصوم” من أدوار يقوم بها، كونه “النائب العام” له، وهو في حالِ غيبة الإمام المهدي بن الحسن، يحظى بجميع صلاحياته كـ”حاكم شرعي”، باستثناء أنه “أولى بالمؤمنين من أنفسهم” وأيضاً “ليس له حق التشريع”، إلا أن له العديد من المميزات التي تصيرهُ عملياً فوق “البشر” العاديين، وتعطيه صلاحيات استثنائية، وتجعله في مكانة “فوق المساءلة”. وذلك رغم أن الدستور الإيراني يقول صراحة بوجود رقابة على منصب “المرشد الأعلى”، إلا أنه فعلياً فوق هذه الرقابة، خصوصاً في وجود بعض النظريات التي ترى أن دور “مجلس الخبراء” هو كشف شخص الولي الفقيه للناس وليس انتخابه!
هذه القدسية تمنحُ الولي الفقيه حصانة ومنعة فاقت ما كان يناله مراجع التقليد للمسلمين الشيعة من احترام وإجلال، ليضافَ إلى ذلك القوة السياسية والإعلامية التي عملت على تصوير الجمهورية الإسلامية في إيران، وكأنها الدولة الممهدة لظهور الإمام المهدي، وذهب الموقف في المغالاة أبعد من ذلك، فقد جرت المناداة بـ”الموت” على المختلفين مع الثورة، واصمين إياهم بـ”الأعداء”، كما في الشعار الشهير: الموت لأعداء ولاية الفقيه!
لقد تم إظهار المختلف مع الخميني وكأنه “رادٌ على الله”، لأن الفقيه هنا هو “حجة الله” على خلقه، مستندين في ذلك على الأثر “وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله عليهم”.
الأثر المروي أعلاه، ورغم أنه لا يخص الفقهاء المؤمنين بـ”ولاية الفقيه المطلقة” وحسب، بل يبحثه مختلف علماء الشيعة ويدرسون معانيه، إلا أن “الشيعية السياسية” استفادت منه في توكيد الصلة الوثيقة بين الفقيه والمعصوم، وأن الإمام الغائب يمثلهُ الفقيه العادل الشجاع مبسوط اليد، وهو آية الله الخميني ومن بعده خليفته آية الله علي خامنئي، بنظر أتباع “خط الإمام”. فيما التيارات الأخرى تراه متمثلاً في مرجعياتٍ منافسة، حيث ترى “الشيرازية السياسية” أن المرشد في إيران ليس هو القائد الفعلي، وإنما الراحل آية الله محمد الشيرازي، والآن فريق منهم يعتقدون أن السيد محمد تقي المدرسي هو الأحق من بعده.
“التيار الصدري” في العراق، كان يؤمن في أن هذا القائد الذي تجب طاعته هو آية الله محمد صادق الصدر، وحالياً رغم عدم فقاهته فخليفته سياسياً ابنه مقتدى الصدر!
التفرعات أعلاه مهمة، لفهم ماهية “الولاية العامة” والتباينات حولها بين مجاميع “الإسلام السياسي الشيعي”، وهم فرقاء مختلفون، بينهم من التنافس والتنافر الشيء الكثير.
ما سبق يقود إلى أهمية وجود قراءات علمية تحليلة لظاهرة “الخمينية السياسية” وأخواتها، وهذا الجهد لا يمكن أن يقوم به آحادُ الناس، وإنما عبر وجود “بيوت أفكار” و”مراكز دراسات وبحوث” جادة، رصينة، بعيدة من الانحيازات العاطفية والسياسية، تنظم ورش حوارات وورش عمل يشترك بها باحثون أكفاء، لا ينظرون لسطح الظاهرة الدينية وحسب، بل يذهبون نحو دواخلها وما وراءها، وفق مناهج البحث الحديثة، ومن زوايا متعددة؛ وهي المراكز المتخصصة التي تأخر وجودها كثيراً في دول الخليج العربية والشرق الأوسط، وآن لها أن تكون واقعاً.
* نقلا عن “النهار”