الثّورة الإيرانيّة: تهنئة البَكر وجواب الخُمينيّ… بغداد أبدت حسن النّية ولكن
رشيد الخيون
تعامل الإعلام العراقي، في النَّشرات الإخباريّة والصّحافة، وكل ما تبثه وكالة الأنباء العِراقيّة (واع)، بميل إلى الاضطرابات، التي بدأت بإيران (1977)، ولكن بحذر، بل كانت الجريدة غير الرّسميّة “طريق الشّعب”، جريدة الحزب الشّيوعيّ العراقي، قبل إغلاقها (نيسان/ أبريل 1979) بانتهاء الجبهة الوطنيّة، بين الحزب الشيوعيّ والحزب الحاكم البعث، مندفعةً مع التّظاهرات بقوة، وكان مِن عادة السُّلطة أن تحجب وتمنع الأعداد التي فيها إساءة إلى دول تعتبرها صديقة لها، مثل المملكة العربيّة السّعوديّة والأردن والصّين، وقد حصل ذلك بالفعل.
كذلك ليس هناك أيّ إجراء ضد آية الله روح الله الخمينيّ (عاش في النَّجف: 1965-1978)، غير تنفيذ طلب طهران بإبعاده من العراق، وقد أعطي الخيار في الوجهة التي يختارها، وكانت بغداد غير متوقعة أن النّظام الشَّاهنشاهي سيهوي بهذه السّرعة، وأنَّ الرّجل الذي كان يتحرك بما توفره له حكومة البعث مِن إمكانات (1969-1975) سيخرج مِن العراق، وخلال أربعة شهور فقط، مِنذ خروجه مِن النّجف إلى وصوله إلى طهران عبر باريس (تشرين الأول/ أكتوبر 1978- 1 شباط/فبراير 1979)، تحل عمامته محل التّاج في إيران، وكان قد وجد شتى الدّعم، ما دامت بغداد على خلاف مع طهران، وكل الظَّن أنه لن يقلب لبغداد “ظَهْر المِجَنّ”، وينسى كل ذلك الاحتضان والدَّعم مِن حكومة البعث له الذي استمر حتّى صلح الجزائر (1975)، وقع اتفاقيته عن إيران الشّاه محمّد رضا(تـ: 1980) نفسه وعن العراق نائب رئيس مجلس قيادة الثّورة صدام حسين (أُعدم: 2006).
أما بعد نجاح الثّورة (11/2/1979) فمَن يتابع الإعلام العراقيّ يجد التَّأييد واضحاً للنظام الجديد، فحال تعيين المهندس مهدي بازركان (تـ: 1995) رئيساً للوزراء أرسلت الحكومة العراقيّة مذكرة، نشرتها الصحف في الصفحات الأولى تحت عنوان “مذكرة عراقيّة إلى الحكومة الإيرانيّة الموقتة” (صحيفة الجمهوريّة: العدد 2507 التاريخ 14/2/ 1979)، جاء فيها: “تُهدي الحكومة العراقيّة تحياتها إلى السّيد مهدي بازركان، رئيس الحكومة الإيرانيّة الموقتة، وتود أن تعلن موقفها مِن الأحداث الجارية في الجارة إيران على الوجه التّالي”: الأولى: إعلان ثبات السِّياسة العراقيّة، بالحرص على إقامة صلات تعاون وثيقة أخوية، مع الشُّعوب والبلدان المجاورة للعراق، على أساس الاحترام، وعدم التّدخل في الشُّؤون الدَّاخليّة، مع الإشارة إلى إذا “كانت فيها حكومات البلدان المجاورة تلتزم بها مِن جانبها”.
النقطة الثّانية: تأكيد العلاقات بين الشَّعبين المجاورين، الإيرانيّ والتّركي، مع العبارة: “وهما ليسا شعبين مجاورين، وإنما هما شعبان شقيقان، تربطهما بالشّعب العربيّ بصورة عامة، والشّعب العراقيّ بصورة خاصة، الرّوابط الإسلاميَّة الوثيقة، وعلاقات التّاريخ المشترك لمئات مِن السّنين”، إلى القول: “ونحن نرى أنَّ طبيعة هذه العلاقات الدّينيَّة والتّاريخيّة، يجب أن تكون عنصر تقوية للعلاقات الإيجابيّة في العصر الحديث، بين العراق وإيران وبقية الأقطار العربيّة”.
النقطة الثّالثة، وفيها إشارة إلى بغض النظام الملكيّ وبالتالي تأييد الثورة: “إن الشّعب العراقيّ الذي ناضل عشرات السّنين، ضد التّسلط الاستعماريّ، والنّظام الملكيّ الفاسد، وضد كلِّ أشكال الطُّغيان والاستغلال، والذي تكلل هذا النَّجاح في ثورته 17 تموز 1968، التي قادها حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ”(صحيفة الجمهوريّة).
كانت الصَّحافة العراقيّة، عندما تذكر الخميني تشير إليه بالسّيد وآية الله، وتبث أخباره بعد الثورة، ونجد مانشيتَ يتصدر الجرائد في بغداد: “العراق يُرحب بقرار إيران الانسحاب مِن حلف السّنتو”، ورحبت بغداد باجتماع ياسر عرفات مع الخمينيّ، أي أن قضية فلسطين صارت تجمع بين النّظامين، وإسناد الخميني حكومة بازركان، وأخبار الإعدامات لرجال النظام الملكيّ، مِن دون اعتراض، بل وفيه نوع مِن التأييد أكثر من الحياد، وقدمت الرئاسة العراقيّة تهنئة له شخصياً بعد إعلان إيران “جمهوريّة إسلاميّة” (1/4/1979)، ونُشرت في الصَّفحة الأولى مِن جريدة “الثّورة” العراقيّة (العدد 3287 التاريخ 6 نيسان/ أبريل 1979)، وكتبت قبل النَّص: “في برقيةٍ مِن الرّئيس البكر إلى السّيد آية الله الخمينيّ: العراق يهنئ حكومة وشعب إيران بقيام الجمهوريّة الإسلاميّة”، وهذا نص البرقية:
“السّيد آية الله روح الله الخُمينيّ، يُسعدني بمناسبة إعلان الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة أن أبعث باسم العراق، حكومةً وشعباً، وباسمي شخصياً، بأصدق التّهاني لكم وللشعب الإيرانيّ الجار الصّديق، متمنين لكم التّوفيق، آملين أن يفتح النّظام الجمهوريّ الجديد فرصاً واسعة لخدمة السّلام والعدل في العالم، وإقامة أوثق علاقات الصّداقة والجيرة مع الدُّول العربيّة عموماً، والعراق بشكل خاص، والله ولي التّوفيق. أحمد حسن البكر رئيس الجمهوريّة العراقيّة”(جريدة الثّورة). لم ترسل بغداد البرقية لأي شخصية رسمية، بل أرسلتها إلى الخميني شخصياً اعترافاً بقيادته.
بعد عشرة أيام، أي في تاريخ: 16/4/1979 مِن إرسال برقية تهنئة أحمد حسن البكر، بعث الخميني ببرقية جوابيّة، نشرتها الصَّحافة الإيرانيّة، وجاءت موثقة في موسوعة الخمينيّ أو “صحيفة الإمام”، وهي كل ما قاله الخميني، من خطبة ورسالة، قبل الثورة وبعدها (21 مجلداً والمجلد الـ22 احتوى الفهارس) جاء في جواب الخمينيّ الآتي:
“بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، فخامة السَّيد أحمد حسن البكر، رئيس الجمهوريَّة العراقيَّة. تسلمتُ رسالتكم الوديَّة، حول استقرار الجمهوريَّة الإسلاميَّة، وأشكركم عليها. إنَّ النَّهضة الانفجاريَّة لإيران على أثر دكتاتوريَّة النِّظام البهلويّ، واستبداده وكبته، كانت تحذيراً لجميع المستكبرين في مقابل المستضعفين، إنني آمل أن تتعامل الحكومات مع شعوبها بطريقة مسالمة. على الحكومات أنْ تكون في خِدمة الشُّعوب، والشُّعوب تدعم حكوماتها، ليتحقق الأمن والرّاحة للجميع. إن عاقبة الكبت الانفجار، وهذا لا يخدم الشّعب ولا الحكومة. وفق الله تعالى الجميع للسلم والسَّعادة، والسَّلام عليكم. روح الله الموسويّ الخمينيّ”(19/جمادى الأول 1399هـ/ 28 فرودين 1358 مِن السّنة الإيرانيّة، رقم الإضبارة 19 ج 99 صحيفة الإمام 7 ص 33).
بحسب حديث وزير الدفاع الأسبق عدنان خير الله طلفاح (قُتل: 1989)، وتعقيب صدام حسين، في التسجيل نفسه، أن صداماً بعث بالرسالة نيابة عن البكر، الذي كان غائباً لإداء العمرة، وعقب صدام أن الجواب كان غير لائق وفيه عبارة “والسّلام على مَن اتبع الهدى” (حديث بمناسبة تكريم القوة الجوية العراقيَّة، تلفزيون العراق 1987 على الرّابط:
ما يخص عبارة “السّلام على مَن اتبع الهدى”، فعادة تُرسل إلى المشركين، وممَن لم يهتدِ بعد، وبهذا أرسل النَّبي محمّد إلى أبي ثمامة مسيلمة بن حبيب الحنفيّ (قُتل 12هـ)، جواباً على رسالته التي جعل نفسه فيها “رسول الله” أيضاً: “بسم الله الرَّحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى مسيلمة الكذاب: السلام على من اتبع الهدى…” (ابن هشام السّيرة النّبويّة).
ما نعتقده أن جواب الخميني إلى البكر كان خالياً من تلك العبارة، مثلما ورد النص في صحيفة الإمام. أما لماذا الجرائد العراقيّة لم تنشر الجواب، وأخذت تذكر تلك العبارة، بعدما تدهورت العلاقة بين البلدين، بعد رئاسة أحمد حسن البكر، وأخذت طبول الحرب تدق، وتصدير الثّورة بدأ بقوة ضد العراق، وخصوصاً بعد تفجير الجامعة المستنصريَّة (1980) وإعدام محمد باقر الصّدر (1980)، ورسالة الخميني له ينصحه البقاء في العراق لقيادة العمل الإسلاميّ، وجواب الصَّدر إلى الخميني الذي أذاعته الإذاعة العربيّة الإيرانيّة، بإعلان الولاء له (أوردنا ذلك مفصلاً في كتاب: الخلافة التُّركيّة والولاية الإيرانيَّة). أخذت هذه العبارة تتردد على أنها وردت في جواب الخمينيّ إلى البكر. حتّى لكثرة تداولها صارت حقيقة مسلماً بها، وليس هناك أي نص في الوثائق العراقيّة ولا الإيرانيّة، بل جاءت عبر الأحاديث، نفهم أنها استخدمت لتأكيد العداء الإيرانيّ في عهد الخمينيّ ضد العراق.
لكن قد يسأل سائل: لماذا لم ينشر الإعلام العراقيّ جواب رسالة الخميني، المذكور أعلاه نصاً؟ فهذا يتعلق بطبيعة الرّسالة، فيفهم منها أنّها موجهة إلى نظام دكتاتوريّ، وخصوصاً العبارة التي اعتبرت الثّورة الإيرانيّة “تحذيراً لجميع المستكبرين في مقابل المستضعفين، أنني آمل أن تتعامل الحكومات مع شعوبها بطريقة مسالمة…”، ثم أردفها بعبارة “إن عاقبة الكبت الانفجار”. كان واضحاً في الجواب نقد مباشر، لكن لم يخاطب النظام العراقيّ على أنه نظام كافر، ولم يختم بعبارة “السّلام على مَن اتبع الهدى”.
ظل الإعلام العراقي، لأكثر مِن عام، ودياً، وكذلك الإعلام الإيراني، فقد ردت إيران على مذكرة الحكومة العراقيّة، بلسان نائب رئيس الوزراء الإيرانيّ الذي سُلمت له المذكرة، وكتبت جريدة “الجمهوريّة” العراقيّة في صفحتها الأولى “ارتياح إيرانيّ للمذكرة العراقيّة”.
لكن بعدها نهجت إيران الإسلاميّة طريق “تصدير الثّورة”، ويأتي العراق في المقدمة، لوجود الحركة الإسلاميّة الشِّيعيّة، وقد أخذ إسلاميو إيران الغرور بانتصار الثّورة، والتمكن في الداخل، ثم جاء تنحي أحمد حسن البكر (16/7/ 1979) عبر خطاب بثه التلفزيون العراقيّ، فبدأت الحرب الإعلاميّة، وحرب المخافر، وإلغاء معاهدة أو اتفاقية (آذار/ مارس 1975) مِن قبل العِراق، حتى توج ذلك بالحرب الشّاملة بين البلدين.
فوفق ما نشرته الصّحافة العراقيّة، وبالمقابل لم يظهر من الإعلام الإيرانيّ أي مساس بالعراق، كان يمكن درء الحرب، لولا الإصرار الإيرانيّ الإسلاميّ على تصدير الثّورة، والقلق العراقيّ مِن نقلها إلى العراق، وإلا كانت الصّحافة العراقيّة تنشر كل ما هو إيجابي في يوميات الثّورة، وتنشر ما هو ضد نظام الشّاه، منها مادة تحت عنوان: “أميركا أمرت الشّاه بمغادرة طهران”، ومانشيت يقول: “مجدداً.. إيران لن تلعب دور الشّرطيّ”، وكانت الجرائد العراقيّة تنقل أخبار الخميني، منها “الخميني يستقر في مدينة قم” مع سؤال: “هل ستكون مدينة قم عاصمةً لإيران؟”، وذلك لأهمية شخصية الخميني. وأخبار تقول: “الهدوء يسود العاصمة الإيرانيّة”.
كذلك نشرت الجرائد العراقيّة أهداف الثّورة الإيرانيّة التي أذاعها رئيس الحكومة الموقتة، ونلخص ما نُشر بالآتي: تصفية نظام الحكم الملكيّ، ونيل استقلال إيران الحقيقيّ، وتصفية السيطرة الأجنبيّة، والحيلولة دون التدخل الأجنبيّ، وإقامة النّظام الإسلاميّ. لكن كان رأي النّظام الإسلاميّ، الذي أخذه الغرور بالنَّصر الكاسح داخل إيران، بأن إقامة نظام إسلاميّ بالعراق مجرد وقت، وهذا ما كانت تهتف به التّظاهرات العارمة ضد النّظام العراقي داخل المدن الإيرانيَّة.
ونقولها رأياً لا معلومةً، إن النّظام العراقيّ، في الشُّهور الأولى مِن الثورة الإيرانيّة، كان يعوّل على النظام الجديد، بعد العداء الطويل مع نظام إيران السّابق، وأنه سيعاد النّظر باتفاقية (1975)، المجحفة بحقّ العراق، وأنَّ آية الله روح الخميني سيتعامل مع النظام العراقي مِن منطق الموقف المشترك ضد إسرائيل والغرب، وأنه لا ينسى الدّعم الذي تلقاه مِن الحكومة العراقية، وهذا ما غطيناه في المقالة السّابقة، على صفحات “النَّهار العربيّ”، وكانت تحت عنوان “الخميني.. لولا البعث لتوارى بين عمائم النّجف”.
أخيراً، بعد التبادل الإعلاميّ الودي بين البلدين، تحول الموقف، في أوائل (1980)، إلى نصب كمائن مِن النّيات المعلنة، صار بها النّظام العراقي كافراً، ونظام رجال الدين دجالاً، وكل منهما يريد إطاحة الآخر، هذا بالقوة العسكريّة، وبعقيدة تحرير الأحواز العربيّة، وذاك بثورة إسلاميّة ذاب قادتها بالخمينيّ، وانتهت الحرب، بعد ثماني سنوات، بقوة النّظام الإسلاميّ داخلياً، فالحرب وحدت الجميع خلف الخمينيّ، وهذا لم يحسب حسابه النّظام العراقيّ، فقد تمت تصفية معارضي النّظام الإسلاميّ تحت جنح الحرب.
أقول: خلال الحرب إنّ عبارة “السّلام على مَن اتبع الهدى”، التي لم يكتبها الخمينيّ في رسالته الجوابيّة إلى أحمد حسن البكر، غدت وديةً قياساً بما قاله النّظامان، ضد بعضهما بعضاً، قُبيل الحرب وخلالها: هذا كافر وذاك دجال!
نقلا عن “النهار”