إمارات ما بعد الربيع العربي: استراتيجية البقاء
أ.د/ عبدالخالق عبدالله
أعطى الوسط الأكاديمي تأثير ثورات الربيع العربي في دولة الإمارات العربية المتحدة، وبقيَّة دول الخليج العربي، أكثر من حقه بحثًا وتعليقًا وتنظيرًا، وخاصة في السنوات الأولى لهذا الحدث الإقليمي الزلزالي، الذي جلَب الكثير من المعاناة لشعوب المنطقة ودولها؛ ولكنَّ كتاب الباحث الإماراتي الدكتور خليفة السويدي بعنوان “الإمارات ما بعد الربيع العربي: استراتيجية للبقاء”، يتناول بعدًا مهمًّا من أبعاد تداعيات هذا الربيع العربي على الإمارات تحديدًا، لم يتطرَّق إليه غيره، ولم يجد الاهتمام الأكاديمي والبحثي الذي يستحقه. والجديدُ في هذا الكتاب المرجعي الصادر العام الجاري (2023) هو تركيزه على العلاقة بين الربيع العربي، ومصادر الشرعية الحديثة والتقليدية في الإمارات.
ويشكل هذا الكتاب إضافةً قيِّمةً إلى الأدبيات عن الإمارات بعينَي باحث إماراتي شاب وواعد؛ وأول ما يسترعي الاهتمام في الكتاب هو رفضه مقولات وأطروحات نظريات الدولة الريعيَّة السائدة، التي تدَّعي أن نظام الحكم الوراثي في دولة الإمارات، وبقيَّة دول الخليج العربي، يستمد شريعته وبقاءَه واستمراره من الموارد النفطية الغنية أكثر من أي مصدر آخر من مصادر الشرعية. ويناقش الدكتور خليفة هذه الادعاءات مناقشة موضوعية عميقة، ويرفضها رفضًا مطلقًا؛ فولاء المواطن الخليجي لنظام حكمه الوراثي عميق عُمقَ التاريخ، ولا يرتبط بالعطاءات النفطية السخيَّة، ولا يمكن اختزاله في برامج الدعم السخية التي تزامنت مع بروز دولة الرعاية الاجتماعية والرفاهية الاجتماعية وحدها.
ويُفنِّد هذا الكتاب -عبر فصوله العديدة- هذا الاختزال للعلاقة بين المواطن في الإمارات بدولته ووطنه وحكَّامه؛ ذلك أن العقد الاجتماعي الإماراتي عقد تاريخي وعضوي سابق للنفط، وسيستمر بعد آخر برميل نفط؛ كما يذهب الكتاب إلى أبعد من ذلك؛ فينتقد نظريات الشرعية الغربية التي قد تناسب المجتمعات الغربية، ولكنها لا تناسب غيرها من المجتمعات، وخاصة في تركيزها على بند الشرعية البرلمانية دون غيرها من مصادر الشرعية. ويقول الدكتور خليفة، في كتابه الصادر باللغة الإنجليزية، وكان في الأصل أطروحة دكتوراه مقدمة إلى جامعة دورهام البريطانية، إن الشرعية البرلمانية مهمَّة؛ ولكنَّ مصادر الشرعية لا تقتصر على الانتخابات والمؤسسات فحسب، بل هي أكثر تنوعًا وتجددًا وتحولًا من دولة إلى أخرى، ومن عصر إلى آخر؛ وفي زمن العولمة الذي نحن فيه أصبح البُعد العالمي للشرعية بأهمية البُعد الوطني نفسها؛ وهو ما تتجاهله نظريات الشرعية الآتية من الغرب.
ويقترح الدكتور خليفة التركيز على مضمون الشرعية الذي يتجدد باستمرار، وليس الاكتفاء بالبحث عن مصادر الشرعية في الإمارات، التي تشهد تحولات ضخمة تُبعِدها تدريجيًّا عن مصادرها الريعية والدينية والقبَلية التقليدية؛ ففي الإمارات توجَد مظاهر عديدة ومصادر جديدة للشرعية، ظهرت في السنوات الأخيرة من بروز الإمارات الجديدة. ويذكر هذا الكتاب، الذي يستحق أن يُترجَم إلى اللغة العربية، العديد من هذه المظاهر والمصادر، ومن بينها بناء هُوية إماراتية وطنية جديدة تعمِّق الولاء للدولة؛ والانتماء إلى الوطن؛ والإخلاص للقيادة؛ والتأسيس لقِيم سياسية محافظة، وقِيم اجتماعية ليبرالية وعصرية، وقِيم نيوليبرالية اقتصادية، مدعومة بسياسة خارجية نشطة، والاستمرار في تحديث تشريعي يواكب مستجدات العولمة، آتٍ من أعلى الهرم السياسي في الإمارات، إضافةً إلى تفكيك ممنهَج لخطاب الإسلام السياسي، وتعبئة مجتمعية حثيثة ضد مخاطره.
ولكنْ على الرغم من أهمية أطروحات هذا الكتاب، وكون مؤلفه باحثًا من الإمارات؛ فإن نقاط الاختلاف مع ما ورد فيه عديدة، وأُولاها الاختلاف مع قول الكاتب إن الربيع العربي هو الذي أحدث مثل هذه النقلة النوعية في مصادر الشرعية، وفي سياسات الإمارات الداخلية، والخارجية خاصةً. وحقيقةُ الأمر أن النقلة النوعية، التي تعيشها الإمارات في كل مجال من المجالات، هي نتيجة حتمية وطبيعية لتراكمات خمسين عامًا من العمل الوطني، والجهد التنموي، والنمو المعرفي للوطن والمواطن والحكم والمحكوم.
إن قدرات الإمارات، وإمكانياتها الجديدة، وبروز قيادات شابَّة وطموحة، هي المسؤولة عن بروز الإمارات الجديدة، وهي التي أحدثت نقلة نوعية ضخمة في السياسات الاجتماعية، والاقتصادية، والأمنية، والبنية التشريعية، ومصادر الشرعية المتجددة التي لم تعُد تقتصر على المصادر الريعية والدينية والقبلية التقليدية؛ ولذلك فإن تركيز الكتاب على ثورات الربيع العربي جاء مكثفًا ومكررًا، وتمَّ على حساب تجاهل العامل الداخلي. ولا شكَّ في أن العوامل الخارجية مهمة أحيانًا؛ ولكنَّ العوامل الداخلية أهم دومًا.
وتتعلق نقطة الاختلاف الأساسية مع ما ورد في هذا الكتاب باعتبار الربيع العربي لحظة تأسيسية ومفصلية في بروز سياسات الإمارات الداخلية والخارجية، وتطوُّرها؛ بل ربطه ببروز هُوية إماراتية وطنية جديدة بدلًا من هُوية إماراتية قديمة قائمة على الانتماء القبلي والديني. ويعطي الكتاب الربيع العربي ثقلًا تاريخيًّا وتأسيسيًّا مُبالَغًا فيه ولا يستحقه؛ ولا يقتصر هذا الخطأ المنهجي والنظري على هذا الكتاب؛ بل يتكرر في كتب عديدة عن الإمارات صدرت في الآونة الأخيرة.
وعلى الرغم من ذلك؛ فإن نقاط الاتفاق مع ما جاء في كتاب “الإمارات ما بعد الربيع العربي: استراتيجية البقاء والاستمرار”، أكثر من نقاط الاختلاف؛ وأهمُّ مجال اتفاق هو أن الدكتور خليفة محقٌّ في القول إن نموذج الإمارات الاتحادي والتنموي والمعرفي نموذج “فريد من نوعه”، ويستحق الدراسة بمنظور تحليلي ومنهجي مختلف عمَّا هو سائد؛ كما أن الدكتور خليفة محقٌّ في القول إنه لا يمكن فهْم نموذج الإمارات باعتماد نظريات الدول الريعية التي تجاوزها الواقع التنموي الإماراتي منذ زمن بعيد؛ فقد أصبحت نظرية الدولة الريعية بعيدة كلَّ البعد عن الإحاطة بواقع الإمارات الجديدة. والمطلوب بذل جهد نظري خلاق لتطوير نظرية جديدة تناسب وقائع إمارات القرن الحادي والعشرين، التي لم تعُد دولة ريعية اقتصاديًّا، وليست دولة صغيرة سياسيًّا، ومجتمعها حتمًا ليس مجتمعًا تقليديًّا اجتماعيًّا.
إن جميع هذه المصطلحات والمسميات عتيقة، وبحاجة إلى إعادة نظر؛ من أجل فهْم النموذج الإماراتي التنموي الجديد والفريد من نوعه، كما يقول كتاب “الإمارات ما بعد الربيع العربي: استراتيجية للبقاء”.