أهم الأخبارمقالات

محمد بن سلمان والقوى العظمى

 

محمد مفتي

منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينات القرن الماضي، اعتبرت الولايات المتحدة نفسها الدولة الأقوى عالمياً بلا منازع، فهي من يفرض شروط صداقتها وضوابط شراكتها وطبيعة تحالفاتها، وحتى خلال تعاملها مع الأصدقاء والشركاء والحلفاء تضع شروطاً من طرف واحد لا تتجاوزها الأطراف الأخرى مهما بلغت قوة علاقتها بهم، فعلى سبيل المثال تحرص الولايات المتحدة تماماً على عدم تزويد حلفائها باحتياجاتهم من السلاح والدعم العسكري بما يفي باحتياجات أمنهم القومي، بل تمنحهم ما يبقيهم فقط في حاجة مستمرة لها، فهي لا تبيع السلاح العسكري إلا بالشروط التي تفرضها هي.

لقد وجدت الولايات المتحدة نفسها متربعة على عرش الاقتصاد العالمي وعلى عرش الصناعات العسكرية وعلى قمة هرم العديد من المزايا التي كانت تتقاسمها مع الاتحاد السوفييتي في السابق، ومن جانبها لم تألُ الولايات المتحدة جهداً في إثبات قوتها وتميزها وانفرادها بحكم العالم، وفي كل منافسة تسعى الولايات المتحدة لإثبات أنها القوة المسيطرة حتى خلال علاقتها بالدول العظمى الأخرى، فعلى سبيل المثال فإن تايوان ترى نفسها دولة مستقلة بينما تراها الصين مجرد إقليم تابع لها، وتسعى الولايات المتحدة لدعم تايوان عسكرياً وسياسياً لتحجيم نفوذ الصين ومنعها من أن تصبح قوة دولية مهابة، وقبل أشهر قليلة قامت رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة بزيارة استفزازية لتايوان في خطوة عكست الدعم اللامحدود من الولايات المتحدة لهذه الجزيرة الصغيرة.

غير أنه من الواضح أن القيادة الصينية تتمتع بالحكمة والحصافة الكافيتين لمنعها من أن تنزلق في حالة عداوة صريحة حالياً مع الولايات المتحدة أو مع غيرها، فعلى الرغم من قوة الاقتصاد الصيني ومكانتها النووية والعسكرية، إلا أنها حريصة على القيام بدور مسالم دولياً، وهو ما يدفعها للبحث الدؤوب عن كل ما يقوي قطاعها الاقتصادي، مع الحرص على بيع منتجاتها العسكرية لحلفائها دون الصدام مع الولايات المتحدة، غير أن الأخيرة لا تلعب نفس الدور المسالم، فمن الواضح أن الولايات المتحدة ترغب في استنساخ مستنقع أوكرانيا في تايوان أيضاً، ومن المؤكد أنها لا تحبذ المواجهة العسكرية المباشرة مع الصين أو روسيا وتفضّل بدلاً من ذلك حروب الوكالة، ومن الجلي أنها نفس الاستراتيجية التي تتبعها إيران في منطقة الشرق الأوسط.

من المؤكد أن المملكة العربية السعودية تهتم باستتباب الأمن وتوفير السلام لشعبها بل ولشعوب المنطقة، ولهذا فإن استراتيجيتها العسكرية تنبع من رغبتها في حماية حدودها والحفاظ على أمن شعبها دون الدخول في مهاترات عسكرية من أي نوع أو مع أي طرف، وهي في نفس الوقت لا تتوانى عن الرد العسكري الحازم إذا بلغ التهديد حدودها، ففي ثمانينات القرن الماضي عندما تزايدت التهديدات الإيرانية للمملكة، رسمت المملكة «خط فهد» وهو خط اعتراض جوي، وأعلنت أن تجاوز إيران لهذا الخط سيتطلب من المملكة وقتئذٍ الرد الحازم، وقد رغبت إيران اختبار مدى جدية هذا الإنذار السعودي، فأرسلت سرباً من الطائرات الحربية باتجاه المملكة، وبمجرد اقتحام الخط تصدت لها المقاتلات السعودية الباسلة وأسقطت العديد منها، مما دفع بقية طائرات السرب للهرب والعودة من حيث أتت.

وحتى تثبت المملكة جديتها في مواجهة التهديدات الإيرانية، طلبت شراء صواريخ استراتيجية متطورة بعيدة المدى قادرة على الوصول للعمق الإيراني، وعلى الرغم من معرفة الولايات المتحدة بحجم التهديدات الإيرانية إلا أنها راوغت في إتمام الصفقة بذرائع واهية، مما دفع المملكة للتوجه شرقاً لشراء منظومة الصواريخ الاستراتيجية من الصين، وقد قوبلت هذه الخطوة بامتعاض واضح من بعض السياسيين الأمريكيين، غير أن القيادة السعودية لم تكترث كثيراً لأن مصلحتها القومية أمر غير قابل للجدل، ومن الواضح أن الولايات المتحدة أدركت في نهاية الأمر أن من حق المملكة الدفاع عن أرضها وحماية مصالحها، وقد انتصرت الدبلوماسية السعودية في نهاية الأمر على الصلف الأمريكي.

من المؤكد أن كل ما تريده المملكة هو أن تحافظ على أمنها وعلى استقرار شعبها، والتسلح السعودي يعتبر ضرورة في ظل التغلغل الإيراني البارز في المنطقة ووسط الفوضى التي خلفها حراك ما يسمى بالربيع العربي، والسعي السعودي لتحديث الترسانة العسكرية السعودية يعد أمراً حتمياً في ظل وجود حكومة أمريكية متعنتة، كما ترغب المملكة في بناء شراكات اقتصادية فعالة مع دول تحترم تعهداتها، لهذا لم يهتم كثيراً الأمير الشاب محمد بن سلمان بالهجوم الإعلامي الغربي الصاخب ضد المملكة وهو ما دفعه للتوجه شرقاً نحو الصين، كونه مؤمناً بأن مصلحة المملكة تفرض عليها أن تختار هي بنفسها حلفاءها.

لا شك أن اتباع سياسة التوازنات مع الدول العظمى هو أمر بالغ الصعوبة، فإرضاء جميع القوى غاية لا تدرك، ولقد أجاد الملك عبدالعزيز (رحمه الله) سياسة التوازنات عند تأسيس المملكة، فعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية في أربعينات القرن الماضي حرصت كل قوة عظمى على استقطاب حلفاء لها، واستطاعت المملكة في خضم هذه الحرب الضروس أن تعبر تلك المحنة بسلام وأن تحتفظ بعلاقات متميزة مع دول التحالف المنتصرة.

خلال زيارة الرئيس الصيني مؤخراً للمملكة تم عقد ثلاث قمم (القمة السعودية الصينية، والقمة الخليجية الصينية، والقمة العربية الصينية) ومن المؤكد أن التمثيل رفيع المستوى لتلك القمم يؤكد على الدعم العميق الذي تحظى به المملكة من شركائها في المنطقة، وقد حملت القمة السعودية الصينية الأخيرة الكثير من الرسائل لكافة الأطراف الإقليمية والدولية، ولعل مرافقة الطائرات الحربية السعودية لطائرة الضيف الصيني خلال تحليقها في سماء الرياض هي رسالة معبرة عن قدرة المملكة على بناء تحالفات قوية مع الدول العظمى المعتدلة، كما أن القمة -بحد ذاتها- دليل دامغ على رفض المملكة سياسة المراوغة والضغوط الخفية، كما دلت الحفاوة الشديدة من الجانب السعودي بالضيف الصيني على أن الصين قوة نووية واقتصادية مرحب بها تماماً من قبل المملكة، وهو ما يعني أن الكرة الآن في ملعب الولايات المتحدة التي عليها إعادة حساباتها مرة أخرى لتقييم طبيعة علاقاتها بحلفائها التاريخيين بما يضمن مصالح جميع الأطراف.

نقلاً عن “عكاظ”

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى