ماذا بقي للمنتصر في سوريا؟
علي الصراف
انتفاضة السويداء لها معنى خاص. إنها انتفاضة أقلية لا تشكل تهديدا لأيّ أقلية أخرى. إنها انتفاضة أقلية ليس بينها وبين أيّ مجموعة سكانية أخرى في سوريا أيّ تاريخ من الأحقاد الدموية. وهي انتفاضة أقلية تميل بطبيعتها إلى التعايش، وليست لديها أطماع سلطوية، ولا تميل إلى الشعور بالضعف.
الدروز لا يمكن اتهامهم بالإرهاب. لا يمكن الزعم أن تنظيم الإخوان المسلمين هو الذي يحركهم. لا توجد مؤامرة إمبريالية أو كونية يمكن إلصاقها بهم. كما لا يمكن القول إنهم لم يصبروا على النظام، بالرغم من كل ما عانوه من بطشه. ولكن فاض بهم الكيل، بمقدار ما فاض بالعلويين أنفسهم.
صار هناك في مدن الساحل من يخرج ليعلن تحديه “الشخصي” لرئيس البلاد. يقول البعض له “ضب أغراضك وانقلع”. أولئك الذين يتحدون النظام في “عقر داره” يعترفون أيضا بأنهم ارتكبوا خطايا ضد أبناء شعبهم الآخرين عندما حاربوا دفاعا عن فساده، تحت شعارات زائفة.
لا تسيطر حكومة دمشق على ثلثي سوريا من السويداء جنوبا إلى دير الزور والحسكة وإدلب وريف حلب شمالا. وإذا أضفت روح التمرد التي تتفشى في مدن الساحل فإنها تكاد لا تسيطر على أكثر من دمشق. المدن والبلدات التي استسلمت لـ”انتصار” النظام، مثل درعا، عادت لتنفخ في الجمر الذي لم ينطفئ تحت الرماد.
ليست الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعانيها السوريون هي وحدها السبب. هناك سبب آخر ليس أقل أهمية. جغرافيا التمرد الاجتماعي هي التي تقول إن هذا النظام لم يعد قابلا للحياة. انتصر عسكريا على الجماعات المسلحة، التي صنع بعضها بنفسه من أجل أن يحقق عليها نصرا، ولكن فاته أنه لم يحقق نصرا سياسيا. هذا النصر كان يحتاج تغييرا حقيقيا، يعيد احتضان الأمل بحياة حرة كريمة. ولكنه فشل في ذلك. القاعدة التي لم يفهمها هي أنه ما لم يقدم المنتصر تنازلا حقيقيا، فإنه يهزم نفسه في آخر المطاف. المنتصر الحقيقي هو الذي يمد يده للمهزوم، فيحتويه. “المنتصر” لم يفعل ذلك. لم يجرؤ عليه. لم تتوفر له الكفاءة ليفهم كيف يمكن أن يتنازل عن بعض انتصاره. شجعه “أبوعلي بوتين” على فكرة أن السحق والمحق هما البديل الأنسب. لم يفهم، أن ثلاثة أرباع سوريا، بالنسبة إلى ربعها الباقي، ليست بمنزلة الشيشان بالنسبة إلى روسيا. استكان للنصر وظل يماطل في القبول بأدنى مستوى من مستويات الإصلاح السياسي أو القانوني، بما في ذلك حتى في لقاءات أستانة التي يملك، هو وحلفاؤه، فيها اليد الطولى. وبقيت اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف تتراوح بين تسويف وتسويف، حتى لم يعد لاستمرار أعمالها أيّ معنى.
الإيرانيون زوّدوه بكل ما يحتاجه من ميليشيات وأسلحة لكي يكرر تجربتهم الخاصة في السحق والمحق. ولكن، لمْ تخنهم “الجغرافيا الاجتماعية” مثلما خانته. ظل نظام الولي الفقيه قادرا على أن يُظهر السيطرة على الشارع ومراكز السلطة في كل مكان. قتل علي خامنئي الكثير من أبناء إيران وأقلياتها، إلا أنه لم يهدم مدنا بكاملها، ولم يشرّد نصف الشعب الإيراني إلى الخارج. بقي هناك مقدار من تماسك السلطة قائما. ولكن ذلك لم يحدث لبطولة اجترحها جلادو الحرس الثوري، بل لأن الإيرانيين أنفسهم لا يريدون تكرار تجربة سوريا في بلدهم. أقلياتهم لم تتسلح لكي تحوّل الانتفاضة المدنية إلى حرب شاملة. يعرفون أن خامنئي لا يمانع في إبادة نصف إيران. الإيرانيون هم الذين يمانعون فاختاروا سبيلا “أبرد” ومتقطعا للمقاومة. انتفاضة خلع الحجاب كانت مؤشرا على حراك مدني كشف كم أن نظام خامنئي هزيل ومعزول. السوريون انزلقوا في طريق آخر. طريق فرضه النظام بنفسه عليهم، عندما أطلق سراح المتطرفين الإسلاميين من السجون لكي يتسلحوا، وعندما اعتقل عشرات الآلاف ممن ظلوا يدافعون عن سلمية الحراك الشعبي، كان يدرك أنه بينما يمكن أن ينتصر على السلاح بالسلاح، فإنه مفلس تماما أمام دعوات الإصلاح السياسي والدستوري. فاختار المجزرة. ولكنه عجز، من بعد تحقيق “الانتصار”، عن أن ينتصر على نفسه. فعادت الهزيمة لكي تلاحقه في عقر داره.
حتى ولو صارت إيران قادرة، بطريقة أو أخرى، على أن تنجد اقتصاده بهبات وقود وطحين وبعض المساعدات المالية، وهي تفعل ذلك من الأساس، فإنها سوف تجد سبيلا لكي تدرك أنها لا تستطيع إحياء جسد نصفه لا يتجاوب مع نصفه الآخر. دولة معاقة مثل سوريا لا تكفيها عشرات المليارات لتعود فتقف على قدميها. الجزء المتمرد من الجغرافيا لن يقوى على إنقاذها من الشلل. ولا يريد ذلك أصلا.
الروس أنفسهم غارقون في أزمة اقتصادية. الحرب في أوكرانيا تحولت إلى حرب استنزاف لم تبق للروبل ما يدافع به عن نفسه. فعاد ليتراجع. يستطيع “أبوعلي بوتين” أن يقدم طائرات وصواريخ. إلا أنه لا يستطيع أن يقدم ولا عشر معشار المطلوب لإعادة إعمار ما هدمته الحرب الأهلية. تحتاج سوريا إلى ما لا يقل عن 400 مليار دولار. لا يوجد في أفق إيران ولا روسيا واحد في المئة من هذا المبلغ لكي تتبرع به لجسد معاق.
السويداء تطالب الآن بتنفيذ القرار 2254. ما يشكل عودة إلى المربع الأول للأزمة. هذه العودة تكفي بمفردها لكي تحكم على مماطلة “المنتصر” وتسويفه. يثبت من خلالها أنه عاد ليكون مهزوما.
لم يهزمه أحد. السلاح ظل سلاحه. ولكنه هزم نفسه.
هل يستطيع الاستدراك؟
هذا أحد الخيارات الممكنة. في الواقع هو الخيار الوحيد. ولكن تكاليفه الآن ليست هي نفسها التي كان يمكن أن يوفر الكثير منها على نفسه لو أنه بادر إلى إقالة المهزوم من عثرته. ما لم يقدر عليه، أو بالأحرى، ما كان بعيدا عن طبيعته أن يقدر عليه، صار مستحيلا الآن.
فماذا بقي للمنتصر؟
ناصحوه في الساحل اقترحوا عليه ما يجب أن يفعل. هذا اقتراح أول. يمكنه، في اقتراح ثانٍ، أن يقول “خسرانة، خسرانة”، فيستأنف أعمال العنف. كما يمكنه، في اقتراح ثالث، أن ينتصر على نفسه، وأن يدفع ثمنه، ولو صار مضاعفا.