مقالات
لاريجاني يعود إلى الواجهة
حسن فحص
أن يختار رئيس البرلمان السابق والمعيّن مستشاراً للمرشد الأعلى والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية علي لاريجاني هذا التوقيت للكشف عن الرسالة التي استلمها من مجلس صيانة الدستور، وتتضمّن الأسباب التي دفعت هذا المجلس إلى رفض ترشحه ومشاركته في سباق الانتخابات الرئاسية، التي من المفترض أن تكون سرية وغير مسموح فضح مضمونها، يطرح كثيراً من علامات الاستفهام حول الدوافع والأسباب وحتى مدى ما وصل إليه الصراع الداخلي بين مراكز القرار في النظام.
اختيار لاريجاني هذا التوقيت الحرج، وفي اللحظة التي تمرّ بها مؤسستا النظام والدولة بتحدي تمرير المرحلة المتعلقة بالمفاوضات النووية، والكلام عن اقتراب الأمور من خواتيمها للإعلان عن اتفاق جديد بين إيران والمجموعة الدولية يقوم أساساً على التمسك بالاتفاق الموقع عام 2015 من دون إدخال أي تعديل عليه بحسب الموقف الرسمي المعلن، وإمكانية أن تذهب الأمور إلى تسوية جديدة تدخل تعديلاً يتضمن موافقة إيرانية على وعد بترك باب التفاوض مفتوحاً أمام مسألتي تمديد مواعيد بعض بنود الاتفاق القائم وقضايا أخرى لا تخرج عما يتعلق بالدور الإيراني في الملفات الإقليمية.
أحد الأسباب التي شكلت خلفية قرار مجلس صيانة الدستور برفض أهلية وصلاحية لاريجاني للمشاركة في الانتخابات الرئاسية كان اتهامه بمحاكاة حكومة حسن روحاني في بعض سياساتها، انطلاقاً من دوره في دعم السياسات الاقتصادية للحكومة السابقة، فضلاً عن الدور الذي قام به في تمرير إقرار البرلمان السريع وخلال 15 دقيقة وبالتواطؤ مع المجلس الأعلى للأمن القومي على الخلاصة التي قدمها هذا المجلس لنص الاتفاق النووي عام 2015، وهو تواطؤ لم يكُن ليحصل من دون ضوء أخضر للمضي بهذا الاتفاق من المرشد الأعلى الذي يسيطر على مفاصل هذا المجلس.
يعني أن لاريجاني وفي كسره المحرمات التي فرضها مجلس صيانة الدستور على مدى عقود من عمله، والتي التزمها جميع المرشحين الذين رُفضت ترشيحاتهم للانتخابات الرئاسية والبرلمانية أو أي مواقع أخرى، قد خرج عن “النص” الذي وضعه النظام لضبط آليات التعامل مع القرارات التابعة مباشرة لموقع ولي الفقيه.
بالتالي، التأسيس لمرحلة تزيل القدسية عن قرارات هذه المؤسسات وتنزع عنها صفة الشرعية، بخاصة إذا ما تم التشكيك وتفنيد المعطيات والأسس التي تعتمدها في بناء أحكامها ومواقفها من المرشحين وتأخذ في الاعتبار التقارير الأمنية الاستخباراتية مناطاً لحكمها بدلاً من الضوابط الشرعية – الدينية والقانونية.
بالتالي يعيد إلى الواجهة كلام وزير الأمن والاستخبارات الأسبق حيدر مصلحي عن أسباب استبعاد الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني عن السباق الرئاسي عام 2013، والدور الذي قام به بناء على توجيه القائد الأعلى والذي تعامل مع رفسنجاني كمصدر خطر يهدد بإمكانية تحوّله إلى ظاهرة تسحب بساط الحكم من تحت أقدام السلطة. وقد لجأت الأجهزة الأمنية آنذاك إلى عملية “تسقيط” اجتماعي لرفسنجاني باتهامه مع عائلته بالفساد واستغلال موارد الدولة لمصالح خاصة وأسلوب حياة ملوكية “طاغوتية”، وهي الأسباب ذاتها التي اتُّهم بها لاريجاني.
انتقال لاريجاني من التزام الصمت الذي وعد به بعد رسالته المطالبة بالحصول على الأسباب الموجبة التي اعتمدها مجلس صيانة الدستور لاستبعاده، إلى الهجوم والكشف عن تفاصيلها ونصها وكتابة رد مطول لتفنيدها، قد يكون الهدف منه أبعد من الدفاع عن الحيثية الخاصة التي مسّته في حياته الشخصية وتسقيطه أخلاقياً. في حين أن اتهامه أو التلميح لمسألة ابتعاده عن الخط السياسي الذي يمثله ومثّله على مدى العقود الماضية في التيار المحافظ، قد لا يكون مصدر إزعاج له، بخاصة أنه في الأعوام الأخيرة من وجوده في رئاسة البرلمان كان حريصاً على تقديم نموذج سياسي مختلف عن التيار المخافظ بجناحيه التقليدي والمتشدد أو الجديد، وأن يكون أقرب إلى الاعتدال وقبول الآخر والتفاهم والحوار معه. وهو ما جعل كثيرين يعتقدون بإمكانية أن يكون لاريجاني مرشحاً للتيار الإصلاحي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
ولعل إحدى أبرز الرسائل التي أراد لاريجاني توجيهها إلى النظام ومراكز القرار فيه، أن جميع الذارئع التي تُعتمد لتسويغ القرارات التي تتخذ بحق عدد من الشخصيات المؤثرة في الحياة السياسية الإيرانية، لا تصدر سوى عن أهداف سياسية ومصلحية تسعى إلى الدفاع عن السلطة واستمرار تمركزها في يد جهة محددة من القوى السياسية، وأن تحميله مسؤولية تمرير الاتفاق النووي في حينه، ليس سوى أحد المداخل لإخراجه واستبعاده عن موقع القرار أو الشراكة، بخاصة أن الفريق الجديد الذي يمسك بالسلطة حالياً، في طريقه إلى تمرير اتفاق قد يكون أكثر سوءًا من الاتفاق السابق، وأن سياسة التفشيل التي اعتمدها هذا الفريق لتفريغ الإنجاز الذي حققته حكومة روحاني اقتصادياً واجتماعياً، بات غير قادر على معالجة مفاعيلها وآثارها، بخاصة في ظل الانهيار الاقتصادي الذي تعاني منه إيران.
أما الرسالة الأبرز التي يحملها موقف لاريجاني، فربما تكون الأخطر سياسياً، كونها تكشف عن وجود مؤشرات جدية إلى انقسام داخل مؤسسة السلطة، أو على الأقل، حالة من الترهل والتفكيك والضعف داخل منظومة السيطرة على المؤسسات، ما يعني تصاعد الصراعات الداخلية بين أطراف ومراكز القرار داخل النظام ومحاولة كل طرف إقصاء الآخر ليكون صاحب الكلمة الفصل والكلمة العليا في المرحلة المقبلة.
ولعل الأخطر في خطوة لاريجاني، التجرؤ على واحدة من المؤسسات التي تشكل ثقة المرشد الأعلى وولي الفقيه، والذراع الأساسية التي يستخدمها ويوظفها لإخراج وإبعاد مصادر الخطر عن السلطة والنظام. وهي مؤسسة تُعتبر الإدارة التنفيذية للمؤسسة الدينية في النظام، واستهدافها من قبل لاريجاني يشكل تحوّلاً جوهرياً في معركة الصلاحيات التي خاضها التيار الإصلاحي معها على مدى العقود الثلاثة الماضية على خلفية هيئة دراسة أهلية المرشحين التي تمارس في كل دورة انتخابية رئاسية وبرلمانية، مجزرة بحق مرشحي التيار الإصلاحي وكل المرشحين الذين لا يؤمنون برؤية التيار المحافظ، ويرفضون الدستور الإيراني بما فيه موقع المرشد على رأس النظام بصفته الدستورية، أو يطالبون بإعادة النظر بهذه الصلاحيات في إطار إعادة توزيع صلاحيات رئاسات السلطات الدستورية.
هذا الموقف من لاريجاني الذي يخرجه من دائرة التيار المحافظ المسيطر حالياً ولا ينقله إلى جبهة القوى الإصلاحية، وقد يضعه على يسار المحافظين الأقرب إلى الاعتدال، يحمل على الاعتقاد بأن الأمور داخل النظام تذهب باتجاه تصاعد الصراعات على السلطة، وأن المرحلة المقبلة ستشهد ازدياد المعارك السياسية بين هذه المراكز لتثبيت مواقعها، تمهيداً للتعامل مع متغيرات ما بعد المرشد الأعلى.
* نقلا عن “إندبندنت عربية”