سيناريو السوداني المتمرّد على صانعه المالكي
د. ماجد السامرائي
يظل التحليل السياسي الوطني غير المُنفصل عن الانحياز لشعب العراق المقاوم لسلطة الفساد، المُفسر الصادق للظرف الذي تمّر به العملية السياسية وسلطتها الإطارية الحاكمة، بأنها مرحلة الخلاص النهائي، وعودة الحكم إلى الشعب صاحب السلطة الحقيقية عبر السياق الديمقراطي السلمي، الذي سيباغت الميليشيات الولائية المسلحة المتهيئة لصدامات السلاح، بعد أن تراكمت وانتقلت إليها عبر سنوات قليلة من الأحزاب الطائفية ذات الإمكانيات المتعددة غير المحدودة لعشرين عاماً مضت، أضيف إليها تراكم فعاليات النهب والسرقات غير المحدودة، خاصة بعد عام 2017، حيث نهاية الحرب وطرد داعش من المحافظات الغربية.
ما نقدمه في هذه السطور هو تفسيرات بعيدة عن العاطفة الحماسية قريبة من التحليل، لما يبدو أنها أول حالة صراع أو تمرّد مُبّطن من رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني ضد صانعه رئيس الإطار التنسيقي رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.
لا نرفض، ولا نكذّب، ولا نؤيد بصورة مطلقة المعلومات الشخصية والسياسية العامة حول رئيس الوزراء الحالي، كواحد من منتسبي حزب الدعوة، حين قال إنه خرج منه وأصبح شخصية مستقلة. غير مهمة أسباب هذا الإعلان ودوافعه، التي قد يكون من بينها إعطاء مرونة لحزب الدعوة ورئيسه في التنصل من المسؤوليات العامة، لما قد يرتكبه المرشح خلال مسؤوليته في رئاسة الحكومة من أخطاء ومساوئ سياسية، بعد فقدان حزب الدعوة للسلطة التنفيذية المباشرة بعد عام 2014.
لكن، يبقى صاحب صناعة “الملوكية الشيعية” نوري المالكي ومن خلفه طهران، سواء أكان رئيس الوزراء صاحب جناح من حزب الدعوة (حيدر العبادي)، أم من قادة الحليف الشيعي المجلس الأعلى الإسلامي (عادل عبدالمهدي)، أو مستقلاً كحالة مصطفى الكاظمي ورئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني.
كانت فرص التعبير عن الاستقلالية متوفرة كبداية سليمة لعلاقة التحالف بين رئيس الحكومة الكاظمي والشعب، التي طالب بها شباب ثورة أكتوبر بداية لتشجيعه ودعم ترشيحه كرئيس للوزراء، وظل يتندر بهذه التزكية الوطنية، لكنه تنكّر لأولى خطواتها في تغييبه ملف كشف ومحاسبة جناة قتل أكثر من 800 شاب عراقي و22 ألف جريح، انضم أربعة آلاف منهم إلى ذوي الاحتياجات الخاصة، كذلك دعم مقتدى الصدر له خلال فترة حكمه، ليفقد بذلك فرصته التاريخية التي لن تتكرر. ومع ذلك يحاول اليوم استثمار منصبه السابق الخالي من الإنجاز، لمعاودة نشاط سياسي مستقل، بعقد تحالفات مع قيادة بارزاني التي أصبحت وستبقى صانعة الملوك الحقيقية في بغداد.
وجد السوداني أنه مهيأ لقيادة البلد عبر رئاسة الوزارة، يمتلك من خلال الدستور صلاحيات مدنية وعسكرية مطلقة إلا من هيمنة صانعيه، ويبدو أنه وجد في نفسه إمكانيات النجاح في رئاسة الحكومة، فاقترب من الخطوط الممنوعة، وأخذ يتقرّب إلى الشعب، ويمارس يومياً بعض مظاهر الحاكم الشعبي. لكن في عراق الأحزاب الفاسدة والميليشيات غير مسموح لقائد سياسي أو حكومي الخروج على تقاليدهم الفاسدة. في عراق اليوم الإمكانيات الوظيفية وحدها لا تكفي، بعد أن غيّبتها المحاصصة الطائفية وهيمنة الميليشيات.
بعد استلامه رئاسة الحكومة غازل السوداني الميليشيات، وجذب ودّها، ورشا قادتها؛ مثل فضيحة تعيين قائد ميليشياوي بوظيفة وزير التعليم العالي، رغم أن شهادته غير معترف بها، ورغم اعتراض واشنطن العلني وعدم تعاملها معه، وغيره من ممثلي الميليشيات في الحكومة.
ملأ السوداني مكتبه بمجموعة من الأفراد متواضعي المستويات العلمية والثقافية قبل السياسية، لمجرد كونهم تابعين إلى فصائل ميليشياوية، وهو ما أنتج ردود فعل سلبية طالت سمعته عند الشعب. ولا شك أنه رصدها واستوعب أن نتائج ذلك الغزل ستعطّل مشروع قيادته الوظيفية، ثم السياسية التي يفكر بها. أخيراً، كشف عنها في دعوته للتغيير الوزاري قبل استكمال ستة شهور من حكومته.
ابتدأت علامات التمرد بوجه صانعه المالكي، عبر الإعلام في إعلانه تحضيرات التغيير الوزاري الذي يشمل من بين مرشحي الأحزاب مرشح المالكي وزير النفط، وهو الموقع الذي يعتبر كنزا دفينا “صاحب الخبزة” كما يقول المثل العراقي. هذه الفرعية البسيطة، يقول البعض إنها ستعطل سيناريو التمرّد، مع أن التوقعات الراجحة تقول إن معركة التمرد بدأت ولا يمكن إيقافها إلا بالنجاح أو الهزيمة.
هذه هي البداية. ويبقى السؤال كيف يسير السيناريو المفترض لمعركة توصف بتمرد الضعيف على القوى غير متوازنة، لا في حجم القوة ولا في نوعها. مهما يحاول السوداني الإيحاء بأنها عملية تطهير لوزاراته من الضعفاء و”التنابلة” والمعطلّين لمشروع الإصلاح الجذري الذي يهدف إليه، وأنه لن يتردد في تطهير حكومته واستبدال الوزراء الذين تم تشخيصهم، حتى وإن زعل أصحابهم من القيادات الحزبية الشيعية، خاصة لأن ذلك سيفضحهم، مكررا في وسائل الإعلام إصراره على تنفيذ معركة التغيير، ومردداً: لا يهمني زعل البعض ومن هم خلفهم من الأحزاب.
بالمقابل، يوحي المالكي بهيمنته على ملف السوداني عبر استخفافه العلني بخطوته التنفيذية، قائلا إنه “لا يعلم أن هناك تعديلاً وزارياً”، وسط تفكك عميق بين قيادات الإطار الشيعية، التي لا يجمعها سوى مصالح، نتائجها الكارثية عليهم ستظهر قريباً، وهم باقون بهذا الترابط الشكلي بضغوط من الإيراني إسماعيل قاآني، كذلك بضغط من صاحب الحنانة الصدر، الذي يراقب ويهدّد بصمت، وهو جالس على جمر سنة الخلوة المُفترضة؛ رجال الدين والشيعة خاصة، يحبون كلام المنابر والحسينيات وقد أصبحت السلطة بأيديهم.
المالكي يريد القول إنّ: لا تغيير يحصل بالحكومة التي صنعها دون أن يقرره هو، موحيا أن السوداني صناعته، ولا يمكن أن يتمرّد الطالب على أستاذه، أو رجل الدين على مقلده. لكنه يعلم بالوقائع أن مسيرة بنيان القادة الشيعة منذ استلامهم للحكم في العراق، قامت على تمرّد وانشقاق الصغار على أوليائهم الكبار.
لا يمتلك السوداني السلاح المعتاد لأيّ مسؤول حكومي بدعم الأحزاب وميليشياتها، الكاظمي في حينه استند على دعم الصدر، وبصورة غير مباشرة توقع أن يثمر غزله لطهران عن دعم حقيقي. اليوم الصدر خارج العملية السياسية، ومسعود بارزاني يرى أن السوداني جزء من الإطار التنسيقي برئاسة المالكي، اتخذت في شهوره الستة قرارات مؤلمة للقيادة الكردية، يعلم مسعود أن مصدرها الإطار التنسيقي.
إذا ما حاولنا جدلاً تصديق تكهنات تمرد السوداني على المالكي، التي تبدو حالياً مزحة، لم تتبلور إلى حد اللحظة مساراتها الواقعية، رغم الضجة الإعلامية، حينذاك سينتقل إلى خندق الشعب. فهل يغامر السوداني بالانضمام إلى حلف الشعب؟ هذا يعود إلى ما يفكر فيه كشخص وكسياسي لا يتوقف عند حدود ما يوفره له المنصب الحالي من إمكانيات هائلة، لأن أصحاب المبادئ الحقيقيين يتوقعون حين يواجهون الزيف والكذب وأعمدته غياب تلك المكاسب، وتراكم الكثير من المشكلات الشخصية، وفقدان المنصب والجاه وحتى الوظيفة.
هل يغامر السوداني بذلك، ولو بصورة مرحلية، خلال تنفيذه خطوة العبور إلى الضفة الثانية من النهر؛ ضفة صدق المبادئ الوطنية ونقائها الحقيقي الخالي من المصالح الذاتية.
هذا خيار فردي نشجعه عليه لكنها مغامرة غير مسبوقة منذ عام 2006. بلا مبالغة، هي خرق كبير في جدار العملية السياسية، يتحول من خلالها تلقائياً إلى حالة اندماج حقيقي بالخيار العراقي. عند ذاك لن تصبح معركته هو كشخص وكرئيس وزراء حالي مع خصومه، بل سيندمج، وقد يقود معركة العراقيين ضد سارقي مال الوطن وخونته.
في الجزئيات يمكنه عندئذ إدارة معركته الحالية لخلق توازن قوة حقيقي بوجه قادة الأحزاب الفاسدة. السوداني، إذا صمد وفق خطوات السيناريو المتخيّل، سينزع ثياب التبعية ويتحصن بثياب الشعب الحقيقية، التي قد تكون ممزقة من الفقر والحاجة التي جلبها عليه أصحابه السياسيون، لكنها ستكون علامة شرف في مقاييس القيم والمبادئ. سيدخل في حلف الشعب الكبير، وقد يصبح قائداً له إذا ما صمد، فالشعب يحترم قادته الحقيقيين ويخلدّهم، كما خّلد سابقيه من قادة العراق.
هل ستتواصل معركة التمرّد المفترض، أم سيتراجع السوداني بتصريفات جاهزة، هو لا يمتلك التزامات سياسية أو تحالف مع أحد داخل البلد. لديه ممرّ واحد فيه مخاطر كارثية قد تكلفه ثمناً يتجاوز منصبه الحالي، ذلك الممر هو تطمينات واشنطن ودعمها لخطواته عبر السفيرة ألينا رومانسكي التي قابلته عشرات المرات على غير العادة، حتى أطلق عليها العراقيون وصف سفيرة فوق العادة، حقيقة وليس وصفاً دبلوماسيا.
يبقى هذا خياره الشخصي.. والشعب العراقي مراقب ذكي.
العرب اللندنية