حرب غزة تحدد مواصفات رئيس الحكومة في لبنان
أحمد عدنان
لحرب غزة الراهنة تداعيات كبيرة في المنطقة لا تستثني لبنان، ومن المبكر الحديث عن أثرها على انتخابات رئاسة الجمهورية بحكم تأثر الانتخابات بعوامل كثيرة محلية وإقليمية ودولية لا بد أن تنسجم معاً، لكن الأثر الأسرع والأوضح تجلى بالفعل في مواصفات رئيس الحكومة المقبل وفق التغيرات والمخاوف التي سيطرت على المنطقة.
لا يمكن أن يأتي رئيس حكومة من محور الممانعة لا بحصة خالصة ولا بحصة غالبة، وحين تنكسر هذه القاعدة تتفاقم أزمات لبنان إما بالتدهور وإما بالشلل، والأمثلة هنا صريحة جداً: حكومة سليم الحص 1998، حكومة عمر كرامي 2004، حكومة نجيب ميقاتي 2011 وحكومة حسان دياب 2019.
هذه الحقيقة يعرفها القاصي والداني، لذلك افترضت المبادرة الفرنسية البائدة في شخص القاضي نواف سلام تمثيلاً خليجياً وعربياً وسيادياً يؤهله لرئاسة الحكومة، ويؤهله لمعادلة الزعيم سليمان فرنجية مرشح محور الممانعة وقوى 8 آذار لرئاسة الجمهورية، لكن فشل المبادرة الفرنسية يستدعي القراءة الفاحصة.
سقطت المبادرة الفرنسية في شق رئاسة الجمهورية بفيتو مسيحي صارم، أما في شق رئاسة الحكومة فكانت النقاشات الدولية والاقليمية واضحة: لن تتكرر تسوية عون – الحريري مجدداً.
منذ اتفاق الدوحة 2008، ثم حكومة تمام سلام 2014، تم تكبيل رئيس الحكومة والحكومة كلها بأعراف ما أنزل الدستور بها من سلطان، كالثلث المعطل في مجلس الوزراء، واحتكار وزارة المال للثنائي الشيعي، وهذا كان له أثره الفادح على مؤسسات الدولة وانتظامها. ثم جاءت التسوية الرئاسية في 2016 لتزيد الضغوط على رئاسة الحكومة بتعسف رئيس الجمهورية في ممارسة صلاحياته الدستورية وأكثرها وقاحة منع رئيس الحكومة من تشكيل حكومته، والأخطر أن محور قوى 8 آذار يريد تحويل هذه التجاوزات إلى أعراف دائمة وحاكمة للدستور.
تجربة رئاسة الحكومة بعد اتفاق الدوحة وحكومة تمام سلام وانتخاب ميشال عون تقول انه تم إخراج رئيس الحكومة – أياً كان اسمه أو وزنه السياسي – من المعادلة الوطنية، وهذا انقلاب كامل الأركان على اتفاق الطائف، على الرغم من زعم أركان قوى 8 آذار بأنها تتمسك به.
إن أي تسوية مقبلة لا تستند الى العودة إلى اتفاق الطائف – بلا قيد أو شرط أو بدع وأعراف – لن تغيّر في الواقع اللبناني البائس أي شيئ في أكثر الأحوال تفاؤلاً، فالتسوية ليست اسماً مقابل اسم، بل ربط النزاع مقابل تحرير الدولة من الميليشيا وأعوانها وأعرافها، وفي مقابل هذا يمكن تأجيل قضية السلاح وفق ضوابط دقيقة داخلية وخارجية. كانت الميليشيا تقول أعطونا الدولة لنرمي السلاح، لكنهم لم يفعلوا سوى توسيع نطاق السلاح غير الشرعي واختطاف الدولة بالترهيب وبالمراوغة.
حصل الثنائي الشيعي على وزارة المال في حكومة تمام سلام بذريعة مبدأ المداورة الذي انقلبوا عليه لاحقاً، وما زال تشبثهم بالوزارة قائماً على الرغم من مسؤوليتهم العظمى في انهيار 2019 وما تلاه بحكم أدائهم في الوزارة منذ 2013، فضلاً عن اتخاذ هذه الوزارة كسوط وصاية على رئيس الجمهورية ثم رئيس الحكومة ثم بقية الوزراء ومؤسسات الدولة. في 2017 أجرى المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان تشكيلات أمنية وفق معيار الكفاءة، لم ترُق هذه التشكيلات لرئيس مجلس النواب نبيه بري فأوعز إلى وزير المال علي حسن خليل بإيقاف المخصصات السرية لقوى الأمن الداخلي نحو 8 أشهر إلى أن تمت إقالة العقيد علي سكينة من منصبه كقائد لمنطقة الشمال في وحدة الدرك. أي أن انتظام الدولة إن لم يعطله رئيس الجمهورية المنتمي الى 8 آذار أو الثلث المعطل في الحكومة تكفلت وزارة المال بتعطيله، وحصل ذلك في أكثر من ملف.
على صعيد آخر، أكدت حرب غزة ما تحيكه قوى الممانعة للبنان، فبدلاً من ميليشيا متأيرنة واحدة أصبحنا أمام ميليشيات، “حماس” و”الجهاد الإسلامي” يعبثان في طول الحدود وعرضها انطلاقاً من المخيمات، فضلاً عن الوديعة الإيرانية المسلحة لدى الجماعة الإسلامية “قوات الفجر”. لقد جعل اتفاق الطائف لسلاح ميليشيا “حزب الله” وضعاً استثنائياً ينتهي بتحرير الجنوب الذي تم بالفعل عام 2000، لكن الحزب اعتبر هذا الاستثناء أبدياً سرمدياً وممتداً إلى من يصطفيهم من الحلفاء داخل المخيمات وخارجها، وأي ربط نزاع مستقبلي مع سلاح الحزب يجب أن لا يستثني سلاح أذرعة الحزب.
هناك تخوف حقيقي على لبنان من أن يتحول إلى مفرخة للإرهابيين برعاية “حزب الله”، فالاشتباكات المسلحة داخل المخيمات الفلسطينية قبل حرب غزة أرادت وضع يد إيران عبر “حماس” و”الجهاد الإسلامي” على اللاجئين الفلسطينيين ومخيماتهم، فيتاح لهذه الميليشيات المتأيرنة “السنية” ما لا يتاح للميليشيا الشيعية داخل لبنان وخارجه ضد السنة وضد العرب، أرادت إيران أن تكون “حماس” هي الناطقة باسم اللاجئين الفلسطينيين لتزاحم السلطة الفلسطينية على النطق باسم القضية، ثم جاءت حرب غزة لتتكشف الصورة الأسوأ، فالمطلوب إيرانياً أن تكون “حماس” هي الناطق الحصري باسم فلسطين، وهذا يعني استخدام القضية من جديد ضد العرب، كان معبّراً جداً أن يقول هنية للإسرائيليين انه يريد التفاوض على أساس حل الدولتين، وفي المقابل يهاجم الدول العربية.
ذهب المرشح الرئاسي سليمان فرنجية إلى باريس في زيارة مشهورة وقدم حزمة من الضمانات أهمها الضمانات الأمنية، لكن تلك الضمانات لم تصمد في التطورات الداخلية اللبنانية إلى تاريخه، أحداث كثيرة وكبيرة كانت تستلزم موقفاً معلناً ومستقلاً من فرنجية يتسق مع وعوده للفرنسيين لكن هذا لم يحدث. قبل حرب غزة كان التخوف من رئيس جمهورية يستمر في انتهاك الدستور وتغييب دور رئيس الحكومة، وبعد الحرب كل التخوف من أن تتغاضى الدولة تماماً عن انفلاش الميليشيات المتأيرنة وتمددها وتفاقم أضرارها داخل لبنان وخارجه.
وفق كل ما سبق، لن يجدي رئيس حكومة ممانع، ولن يجدي رئيس حكومة بلا لون ولا طعم ولا رائحة، تحدثت مداولات المجموعة الخماسية عن رئيس حكومة يتمتع بالكفاءة وبالنزاهة، لكن الشرط السيادي في هذا الرئيس أصبح يتقدم على الشروط الأخرى من دون أن يناقضها، وهذه التوليفة من المواصفات ثم تشكيل حكومة التكنوقراط (أو التكنو سياسية) وفق روح الدستور الذي صنف النظام في لبنان نظاماً سياسياً برلمانياً لا نظاماً رئاسياً، هو المدخل الوحيد لاستعادة مصداقية الدولة من خلال تمكين الدستور، وإعادة التوازن إلى الحياة الوطنية وإلى المؤسسات باستعادة دور رئيس الحكومة كرئيس للسلطة التنفيذية، كما أن خلفيته السيادية ستعالج عزلة لبنان العربية والدولية وستعيد ضبط الانفلات الأمني الذي أنتجه الفراغ وكرّسته حرب غزة، وستشعر الشارع السني بالثقة وبالطمأنينة، ولا شك في أن النزاهة والكفاءة لشخص رئيس الحكومة ولفريق عمله – بالتكافل والتضامن مع الاحتضانين الدولي والإقليمي – ستزيلان العقبات أمام تطبيق الإصلاحات المالية والاقتصادية ما يكفل انطلاقة واعدة وجديدة وآمنة للبنانيين جميعاً ولاقتصادهم المتداعي.
إن الواجبات الأمنية على رئيس الحكومة المقبل وحكومته أصبحت لا تقل أهمية عن الواجبات الاقتصادية. والشرط السيادي في شخص ساكن السراي المقبل ضمانة تحفظ اللبنانيين من الإرهاب العابر للطوائف، يكفي أن يتذكر اللبنانيون الإجماع السني (واللبناني) الذي تحقق على الرئيس فؤاد السنيورة في حربه على تنظيم “فتح الإسلام” الإرهابي، هذا الإجماع الذي غاب حين واجهت حكومة الرئيس ميقاتي الثانية أحمد الأسير في أحداث عبرا 2013.
لن يقاتل المجتمعان الإقليمي والدولي من أجل فرض مصلحة لبنان على اللبنانيين، فإذا استمر تهميش اتفاق الطائف وتهشيمه، وتم تركيب السلطة وفق المعايير الإيرانية البائسة، سيستمر الإهمال العربي والدولي للبنان، ولو ظهرت مباركة ظاهرية إقليمياً ودولياً.
زعم محور الممانعة أنه حقق انتصارات مدوية في سوريا وفي العراق وفي غيرها، وحين أراد ترجمة هذه الانتصارات إلى الإطباق المطلق على السلطة في لبنان اصطدم بالجدران الداخلية، وما انطبق مع الممانعة في العراق وفي سوريا سينطبق على غزة، لأن مفتاح نهوض لبنان من أزماته يكمن في الاقتصاد والتنمية، وهذا ما لا تملكه إيران وميليشياتها.
نقلا عن موقع غراند