تناقضات نصرالله بين اغتيال سليماني وباسيل
علي شندب
في السنوية الأولى لاغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، نفّذ زعيم حزب الله عملية سطو على المقاومة العراقية الحقيقية واختطف تراثها وعملياتها ضد الاحتلال الأميركي، وجيّرها رغم عدم امتلاكه أياً من أوراقها الثبوتية، لصالح رمز قوة إيران الخارجية الجنرال قاسم سليماني بهدف تطويبه قديساً، كما ورسم صورة مخيالية له تتجاوز صورة غيفارا وأحمد ياسين وأبو علي مصطفى وكل الثائرين حول العالم.
في السنوية الثانية، استكمل نصرالله تقديس سليماني، من خلال مقاربة مناقضة للواقع بين ما أسماه الشهيد والقاتل. بإمعان شديد أصر نصرالله على إسباغ الشهادة على المنقذ سليماني الذي حضر الى العراق لكف شرور داعش عن العراقيين. وبسلطة استنسابية حوّر نصرالله الكثير من الوقائع التاريخية وزيّفها. وبأسلوبه المتمادي في التزييف قفز نصرالله عن واقعة أن سليماني قاد زحوف الميليشيات الطائفية في العراق وغيره تحت وبحماية الأباتشي الأميركية، بل وقفز عن واقعة تخادمه مع داعش ونقله لمجموعاتهم المسلحة من جرود القاع بالباصات المكيفة. ليصر على محاولته اليائسة في تثبيت صورة أن سليماني كان عدوا “للعدو الأميركي”، في حين أن سليماني ومن خلفه خامنئي وقادة إيران لم يتمكنوا من التغوّل في البلاد العربية وانطلاقا من العراق إلا ضمن الشراكة والتخادم العميق مع الاحتلال الأميركي.
في خطابه هذا، عمد نصر الله إلى هدم كل المساعي الهادفة لتنقية العلاقات اللبنانية السعودية، فشنّ هجوما عليها رغم أن السعودية تعتبر العمود الفقري للتحالف الدولي للقضاء على داعش. كما عمد إلى إعادة نبش “الفكر الوهابي التكفيري” رغم طيه صفحته لسنوات خلت.
قمة التناقض في خطاب نصرالله، كما وفي معاييره المصلحية المستغبية للذاكرة والعقول، تجلّت على سبيل المثال بإطلاقه في خطاب سابق له عام 2016 مقولة تمنينية شهيرة مفادها “لولا الحشد الشعبي لاحتل داعش قصوركم وبلادكم”. وبالأمس ينقلب نصرالله على نفسه ليقول “السعودية هي من تقف خلف داعش”. بدون شك مصلحية الاستغباء هي من تقف وراء ارتباك نصرالله وتناقضاته الرهيبة، التي بلغت أوجها بقوله “السعودية تتخذ من مئات آلاف أو عشرات آلاف اللبنانيين رهائن”. في حين أن نصرالله يعلم رأي مئات آلاف اللبنانيين بأنه يختطف لبنان ويضعه رهينة الأجندة الإيرانية ومن قبل الرقصة النووية مع أوباما وليس مفاوضات فيينا.
لقد ساء نصرالله أن يرى صور قديسه سليماني كما صوره وصور خامنئي وخميني وغيرهم تحرق وتمزق في بغداد وبيروت وأيضا في فلسطين وغيرها. وأن الاحترام الذي كانت تكنه شرائح لبنانية وعربية وإسلامية واسعة لمقاومة حزب الله قد تلاشى بالكامل من لحظة اعلانه أنه جنديا في جيوش إيران، تماما كما سبق وأكد قائد “مقر خاتم الأنبياء” نقلاً عن سليماني حول إنشائه “6 جيوش للدفاع عن إيران”.
اللافت في كلام نصرالله بالأمس أنه كان إيرانيا أكثر من كل المتأيرنين والإيرانيين. وأن لبنانيته تبخّرت في خطاب تقديسه لسليماني. وقد قدم نصرالله الدلائل الكثيرة التي تقول بأنه لا يأبه لحال لبنان، وتركيبته وتنوعه، ولا يهمه الوضع الاقتصادي والصحي والاجتماعي فضلا عن الانهيار المالي، الذي تسبب به من خلال التفاهم الذي أبرمه مع ميشال عون في مار مخايل.
لقد سطا نصرالله على مفاصل الدولة، تماما كما سبق وسطا على المقاومة العراقية. السطو بات من سمات الرجل النافرة. التغوّل على الدولة وتجويفها وتهديدها بمئة ألف مقاتل، وإخضاعها عبر منظومة الفساد والنيترانيوم والكابتغون التي يتزعمها بالشراكة والتخادم، فضلاً عن سياسة الإملاءات وتعطيل البلد وليس حكومته فقط من خلال الميثاقية، بعيدا عن ملهاة “الثلث المعطل” التي عطّل ميشال عون ووريثه باسيل تشكيل الحكومة حتى حصلوا عليه في حكومة ميقاتي.
اعترف نصرالله بوجود مشكلات عميقة في لبنان، سيخصّص لها في قادم الأيام بعض محاضراته حتى لا يخدش قدسية سنوية سليماني. رغم هذا لم يستطع تجاوز المشكلات التي أثارها شريكه في تفاهم مار مخايل جبران باسيل والرئيس عون في صراعهم مع نبيه بري شريك نصرالله وحليفه ضمن البيت الشيعي.
فما يريده باسيل هو أن يحشر نصرالله في مفاضلة بين استمرار تفاهم مارمخايل وبين فك الارتباط بين طرفي الثنائي الشيعي. ما يعني أن على حزب الله التضحية بحركة أمل ورئيسها قربانا للتفاهم مع باسيل في سعيه للوصول إلى كرسي الجمهورية. من هنا يمكن قراءة التمايز الذي تعمّده ميشال عون وأيضا نجيب ميقاتي في رفضهم هجوم نصرالله على السعودية وقيادتها.
يدرك نصرالله أن اللحظة السياسية لا تسمح له التفريط بغطائه المسيحي والرسمي، كما يدرك أن الطلاق مع حركة أمل ورئيسها نبيه بري أكثر من انتحار سياسي. لهذا عمد في ثنايا خطابه عن سليماني لتمرير رسالة غير مشفرة لباسيل تتضمن استعداده لتطوير تفاهم مارمخايل، وكان من تداعيات الرسالة انتقال باسيل من خندق التصويب على نبيه بري، الى إشعال الجبهة مع سمير جعجع، ليطرح معادلته النافرة والمستولدة من مشيئة نصرالله “إما مار مخايل، أو مشهدية الطيونة”.
إنها رسالة المسكنات التي فعلت فعل الخمرة في رأس باسيل المستعد ليفعل أي شيء وكل شيء في سبيل طموحاته الرئاسية حتى لو اضطره الأمر ليحمل القرب على ظهره ليملأ “سدّ سلعاتا” بالماء بدل الهواء.
هامش المناورة يضيق على طرفي مار مخايل، تماما كما يضيق صدرهما ببعضهما رغم محاولة نصرالله التمظهر بالحلم والصبر الاستراتيجي. العقل العميق لحزب الله ضاق ذرعا بابتزازات باسيل التصاعدية كما تشي كولسات بعض أقطاب الحزب مع بعض حلفائهم.
فباسيل ليس مؤهلا ليرتقي لرتبة الحليف الاستراتيجي كما كان الحال مع عمه ميشال عون. وباسيل أيضا ليس ضمن خيارات الحزب الرئاسية كما يشي هدوء سليمان فرنجية. وبهذا المعنى فقد بات باسيل عبئا ليس على تياره البرتقالي فقط، بل على حزب الله أيضا، كما أن سلوك باسيل واتهامه بالفساد من اللبنانيين أمر لا يمكن لحزب الله تحمل أوزاره الحقيقية ولا تداعياته السلبية خصوصاً في البيئة الشيعية بوصفها الأكثر رفضا لباسيل ومن قبل قنبلة “البلطجي” التي رماها على نبيه بري.
قنبلة البلطجي، فعلت فعلها في الانتخابات النيابية السابقة، وشدّت عصب حركة أمل وتيار باسيل. وعشية الانتخابات النيابية يتوقع ارتفاع وتيرة القذف والقصف الإعلامي المركز لزوم المعركة الانتخابية. ولهذا السبب تمادى باسيل في التهديد بفرط مار مخايل ليقينه أن هجومه على بري استنفد صلاحيته وأغراضه، ما دفعه للهجوم على الحزب توسلاً لشعبية كالتي بات يحوزها أقله فارس سعيد وليس سمير جعجع.
لكن ما الذي يمكن أن يفعله باسيل لانتشال شعبية التيار من ما بعد الحضيض؟. السؤال الصحيح ما الذي يمكن أن يفعله حزب الله لشدّ عصب حليفه التيار الوطني الحر ورفع حواصله الانتخابية، حتى لا يخسر حزب الله أكثريته النيابية التي سبق وحدّدها قاسم سليماني بأكثر من سبعين نائباً؟
تحوّل باسيل من التصويب على بري إلى التصويب على جعجع، في سياق التخيير بين تفاهم مار مخايل ومشهدية الطيونة، ربما يكون خطيئته القاتلة، سيما وأنه يتزامن مع كلام متكرر مفاده “أن حدثا أمنيا كبيرا على شاكلة اغتيال سياسي كبير وحده ما يمكن أن يؤجل الانتخابات النيابية”. وهنا يجدر التوقف عند إعلان بعض نواب تيار المسقبل أن سعد الحريري مهدّد أمنيا. لكن ماذا عن اغتيال باسيل؟
إنه الاغتيال الذي إذا ما حصل، سيحقق عدة أهداف بضربة واحدة. أولا، سيشطب إزعاج باسيل لحزب الله وسيلغي تنادده مع نصرالله. ثانيا، سيشد عصب التيار الوطني الحر ويبعثه من تحت الأرض إلى صناديق الاقتراع. ثالثا، أنه سيطوي لأجل سياسي بعيد ملف التحقيق بانفجار مرفأ بيروت. رابعا، أن المتهم ما قبل الأول بالاغتيال سيكون سمير جعجع غريم تفاهم مار مخايل، وعدو باسيل الرئاسي، وسيؤكد هذا الاتهام أن من أفلت من أحداث الطيونة لن يفلت من دم باسيل.
نقلا عن العربية