انتخابات لبنان تُسقط أكثرية قاسم سليماني
علي شندب
عبّرت خطوة إزالة الجدران الإسمنتية (المشابهة للجدران الكونكريتية التي نُصبت في شوارع بغداد بعد احتلالها عام 2003) من محيط مجلس النواب في وسط بيروت، والتي رُفعت بهدف منع ثوار ومحتجي 17 تشرين من اقتحام البرلمان اللبناني، عبّرت عن حجم التغيير الذي اخترق المنظومة السياسية ممثّلة بالمجلس النيابي الذي سيجلس على مقاعده 14 نائباً فازوا على لوائح التغيير. إنه الفوز المفاجئ ليس للطبقة السياسية فحسب، بل للفائزين والكتل الشعبية التي اقترعت للوائح التغيير.
وبدا نواب الكتلة التغييرية بمثابة الجسم الغريب عن نسق النظام، فلطالما تعرّضوا للقنابل المسيلة للدموع، وضُربوا بالرصاص ومدافع المياه والعصي وكل ما تختزنه آلة القمع من قبل الأجهزة الأمنية المختلفة وخصوصاً من شرطة مجلس النواب التي كانت في سلوكياتها القمعية أقرب للميليشيا من الجهاز الرسمي سيّما أن غالبية عديدها من حركة أمل منذ أن كانت ميليشيا. وقد روى أكثر من نائب عن تعرضه للخردق، فيما قال النائب فراس حمدان الذي أصيب في ساحة البرلمان، إن “حبّة خردق” لم تزل في قلبه حتى اليوم.
إذن 17 تشرين أحدثت تغييراً في البرلمان اللبناني، كما وفي ذهنية ووجدان جمعي لشرائح لبنانية وازنة انخرطت فيها على امتداد لبنان. كما أن التغيير أصاب المزاج المسيحي وأحدث تغييراً ولو بسيطاً في ميزان القوى المسيحية، أي التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية التي سارع رئيسها سمير جعجع للإعلان أنه بات يمثل الأكثرية المسيحية. في حين أن التيار الوطني الحر وبلسان رئيسه جبران باسيل حليف حزب الله غير المختلف ايديولوجياً مع إسرائيل والمُعاقب أميركيا بالفساد، سارع للرد على جعجع بأن تياره لم يزل يمثّل الأكثرية المسيحية. وفيما يستمر التنافس العددي بين الفريقين حول أيّهما يمثّل المسيحيين أكثر، بيّنت الوقائع الانتخابية أنّ القوات اللبنانية تمثّل المسيحيين أكثر في عدد الأصوات المقترعة لها، في حين أن التيار الوطني يمثّل أكثر في عدد النواب الذين وصل نحو تسعة منهم بأصوات شيعية وسنية ودرزية مرجحة. ولا يخفى على أحد أنّ الاقتتال الإعلامي والسياسي بين الطرفين هو لأهداف مرتبطة بالاستحقاقات الدستورية المقبلة من رئاسة ومكتب المجلس النيابي، مروراً بتشكيل حكومة ما بعد الانتخابات، وصولاً إلى انتخابات رئاسة الجمهورية.
وتوازياً مع صراع الديكة حول الأكثرية المسيحية، فما يجدر بنا قوله والتوقف عنده أن الانتخابات النيابية ثأرت من قاسم سليماني المقتول بغارة أميركية قرب مطار بغداد، وأسقطت مقولته إثر انتخابات 2018 بأن “حلفاء إيران حصدوا 74 نائباً”. ويومها أحدث كلام سليماني الاستفزازي هذا موجة غضب، كانت بمثابة الوقود الإضافي لانطلاق ثورة 17 تشرين. فالفرق بالنسبة لحزب الله بين انتخابات 2018 وانتخابات 2022، هو تماماً كالفرق بين قاسم سليماني ووريثه إسماعيل قاآني. وهذا الفرق هو ما دفع زعيم حزب الله للاعتراف في أول تعليق له بعد الانتخابات أنه لم يعد يملك “الأكثرية النيابية” التي لا يمتلكها أيّ من القوى اللبنانية أقلّه حتى اللحظة. نقول حتى اللحظة، لأنّ هناك مساعي حثيثة تبذلها القوات اللبنانية لإقناع كتلة التغيريين وبعض النواب المستقلين والسياديين لتشكيل تحالف من شأنه استيلاد “الكتلة الأكبر” في البرلمان اللبناني.
ممّا لاشك فيه، أنّ عزوف رئيس تيار المستقبل سعد الحريري عن المشاركة وتياره في الانتخابات سمح بنسبة كبيرة بهذا الهامش التغييري الذي إذا ما دقّقنا فيه، فنجده أصاب بشكل أساسي البيئة السُنّيّة التي ازدادت ضعفاً وتشرذماً، ونجد أن نصف التغييريين قد ورثوا مقاعد تيار المستقبل، فيما احتفظ قدامى تيار المستقبل بالنصف الثاني، في حين أنّ لوائح فؤاد السنيورة التي شكلها لملء فراغ غياب الحريري قد مُنيت بهزيمة مطبقة في بيروت خاصة. في حين أن وليد جنبلاط لعب ورقة المجتمع المدني على حساب خصميه طلال أرسلان ووئام وهاب المحسوبين على سوريا أولاً، وحزب الله ثانياً.
لعلّ النتيجة الأسطع إحراجاً هي السقوط ما بعد المدوي لحلفاء النظام السوري التاريخيين في لبنان. إنّه السقوط الحرّ وغير العبثي والذي تعدّدت القراءات حوله، سيّما وأنه أعقب زيارة بشار الأسد الى الإمارات في خطوة وُصفت بأنها بمثابة انطلاق قطار إعادته إلى كنف النظام الرسمي العربي. وهي الخطوة التي تردّد بقوة أنها كانت محل امتعاض كبير من إيران، ومحل إحراج لحزب الله الذي يجاهر بعدائه للسعودية والإمارات. وقد أتى سقوط حلفاء سوريا في لبنان بمثابة الرسالة المؤلمة للقيادة السورية، سيّما وأنها ظهّرت لبنان وكأنه بات محل ترسيم خطوط ومناطق النفوذ والهيمنة من وراء سوريا وفوقها، بين إيران وذراعها حزب الله من جهة، وبين الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية وحلفائهم من جهة أخرى.
إنّه الترسيم الذي دفع سفير السعودية في بيروت وليد بخاري لإهداء نتائج الانتخابات لروح مفتي الجمهورية الشهيد حسن خالد، وليزفّ له باسم الشعب اللبناني “سقوط كل رموز الغدر والخيانة وصناعة الموت والكراهية”. وبدا بخاري هنا متصالحاً مع تمنياته لنتيجة الانتخابات العامة التي لم يسقط فيها نائباً شيعياً واحداً. لم يسقط لأنّ الثنائي الشيعي وخصوصاً حزب الله قد رفع سداً تصويتياً عالياً حول المقاعد الشيعية وفي كافة الدوائر الانتخابية منعاً لاختراقها حتى يظل ممسكاً بالميثاقية الشيعية أولاً، وبرئاسة المجلس النيابي التي لم تزل معقودة اللواء لصالح رئيس حركة أمل نبيه برّي ثانياً. ولعلّ المدقّق في الأصوات الانتخابية يكتشف بسهولة أن أعداد المقترعين لمصلحة حزب الله قد ارتفعت، بل إنّه كان بإمكان حزب الله منع سقوط غالبية مقاعد حلفائه الذين سبق لنصرالله أن أكد العمل على ضمان فوزهم وفشل. والأرجح أنه لم يفعل إلّا حيال تيار جبران باسيل. لم يفعل لأنّه يعلم أن ثمن “الغالبية النيابية” إذا ما استحوذ عليها هذه المرة، سيكون بوضع لبنان بين نموذجي غزّة أو فنزويلا.
ما فعله حزب الله هو الدفع باتجاه إنتاج برلمان دون أكثرية لطرف، بهدف حثّ الجميع على التعاون والمشاركة في تحمّل مسؤولية بلد ينهار اقتصادياً ومالياً واجتماعياً. وما أكده نصرالله في إطلالتيه بعد الانتخابات كان بمثابة الإسفنجة التي عملت بمرونة لافتة وواقعية مستجدة على امتصاص المواقف الساخنة للرؤوس الحامية.
أوّل الغيث كان في امتصاص غضب 17 تشرين عبر إدخالها إلى اللعبة البرلمانية التي يرجح أن يكون مصيرها في لبنان نسخة طبق الأصل عما يجري في العراق. أما ثاني الغيث، فكان بتمنّي نصرالله على القوى اللبنانية تأجيل البحث بملف “السلاح” نحو عامين لأنه ليس بالقضية الداهمة، وفي هذا تطور مستجد أهملته “الرؤوس الحامية” حتى الآن.
نقلا عن العربية